مبارك بن محمد الميلي رجل من زمن النهضة الجزء الأول

  • PDF

الشيخ: التواتي بن التواتي
إن البحوث تحدثنا أن فكرة جمع شمل العلماء راودت الشيخ ابن باديس منذ أن كان طالبا بالزيتونة ما إن تخرج ورجع إلى بلده شد الرحال نحو المشرق مستطلعا أحوال المشارقة وما هم عليه من خير وما أصابهم من ضير فزار مصر وبالتحديد الأزهر الشريف والتقى بالشيخ البخيت وناقشه وهنا قال الشيخ البخيت: اتي أمام بحر من العلم وكتب له في دفتر جوائزه شهادة عالم من علماء الإسلام ثم رحل إلى الشام ووقف عند قبر خالد بن الوليد وفي الوقوف أمام هذا العظيم رمز وأي رمز؟ والتقى بالشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان مدرسا بالمدرسة السلطانية وضرب معه موعدا بالمدينة حيث يوجد الشيخ الطيب العقبي إذ كان يدرس بالمدينة المنورة وطلب ابن باديس من صاحبيه (الإبراهيمي والعقبي) العودة إلى أرض الوطن وقال لهما: إن الشرق له رجاله وإن الجزائر في حاجة إليكما وهناك التقى ابن باديس بشيخه حمدان لونيسي وقال له: ناشدتك يا عبد الحميد لا تجعل علمك في خدمة الاستعمار فوقف ابن باديس عند شباك التوبة وقال: أعاهدك يا رسول الله أني أعيش من أجل دينك مجاهدا وأموت من أجل دينك وقد تحقق ذلك.
وهنا كانت الخطة الإستراتجية للجمعية فكان ابن باديس بالشرق الجزائري والشيخ البشير الإبراهيمي بالغرب الجزائري والشيخ الطيب العقبي بالوسط الجزائري وبقيت منطقة أخرى لها غربها وشرقها ووسطها وهي الجنوب المتسع الأرجاء فلا بد من أن يوفد إليه من يقوم بالمهمة:
فكان بالجنوب الشرقي علماء أجلة من واد سوف وبسكرة لهم علاقة بالشيخ ابن باديس فقد كان الشيخ اللقاني بتوقرت وهو شيخ فقيه مبرز في العلم حسب ما ذكره لي شيخي أبو بكر-رحمه الله تعالى- وكان بالجنوب الغربي وبالضبط بواد ميزاب ثلة من العلماء الإباضيين الذين آزروا ابن باديس وبقيت منطقة بوسط الجنوب وهي منطقة معروفة بحبها للعلم والعلماء وهي مدينة الأغواط قلب الصحراء وبابه فقد تحرك أهلها وخاصة مشايخ الطريقة الرحمانية العزوزية فاتصلوا بالشيخ باديس فأوفد إليهم في أول الأمر الشيخ سعيد الزاهري وبقي في الأغواط سنة وكان الشيخ الزاهري_رحمه الله- حكيما نصوحا لحركة الإصلاح يريد لها النجاح ولو بالانتقاص من نفسه فقد وصف نفسه أن فيه خفة روح  فقال لأهل الأغواط: أنا لا أليق لهذه المدينة المحافظة وإنما أدلكم على شخصية علمية تتلائم مع عقلية أهل هذه المدنية فدلهم على الشيخ مبارك بن محمد الميلي. 


لمحة عن الشيخ مبارك: 
من هو الرجل؟ لا أريد أن أحدثكم عن حياته فهذا لا يليق: 
وليس يصح في الأذهان شيء _ إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن أقف عند لفظ رجل لنعرف معناه: ليس الرجل في نظري ذلك الذكر المقابل للأنثى يقول الشيخ توفيق المدني: فالرجال بهذا المعنى كثرة كاثرة لكن الرجال الحقيقيين ندرة غالبة قد تمر أجيال ولا تعرف الأمة رجلا حقيقيا فتعيش عيشة السائمة وتموت موت الحشرات حتى إذا قيضت لها العناية الإلهية رجلا حقا ليخرجها بإذن الله من الظلمات إلى النور ويبوّأها مكانا محمودا بين الناس.
إن الرجل الحقيقي في نظري هو الذي يعيش بفكره ويحيا بقلبه ويشعر بإدراكه ويسخر حياته لما ينفع الناس ولا يسخرها لخدمة الجسم الفاني ولا لشهواته إن الرجل الحقيقي في نظري هو الذي يسيّر المجتمع تربية وتوجيها ونصيحة وإرشادا ولا يساير الناس فيذوب ويتلاشى فيهم.
إن الرجل الحقيقي في نظري هو الذي يعيش لغاية ويسعى لهدف فقد سخر نفسه ليستفيد منه المجتمع ولا يستفيد هو من المجتمع يشقى ليسعد الناس يذوب ويذبل ليعيش الناس وهدفه إرضاء رب الناس إن الرجل بالأوصاف التي ذكرت هو مبارك بن محمد الميلي إذ قدم إلى بلدة في قلب الصحراء لا يعرف فيها أحدا قدم إليها شابا في مقتبل العمر فاستطاع أن يؤسس بها مدرسة قرآنية على الطراز العصري ويجمع فيه بنات وبنين رغم عرفت عليه من محافظة ويتخرج على يده رجال بلغوا من العلم مبلغا أليس هذا هو الرجل الحقيقي ولا أسترسل في بيان الرجل الحقيقي حفاظا على الوقت..
وقد كوّن رجالا حملوا راية الإصلاح من بعده حين بلغوا من العلم مبلغا أذكر منهم: الشيخ العلامة أحمد قصيبة صاحب الجرأة في كلمة الحق إذ كان لا يبالي في الصدع بها مهما كلفه ذلك والشيخ العلامة أحمد شطة الشهيد في سبيل الله لأنه جهر بالموقوف بجانب الثورة المباركة ودعا إلى الجهاد في خطبه الجمعية فاعتقله الاستعمار وقتله والشيخ العلامة أبو بكر الذي كان يستخلفه الشيخ ابن باديس للتدريس في الجامع الأخضر أثناء غيابه ويكفي أن أشير إلى أن أحمد حماني من تلامذة الشيخ أبي بكر الأغواطي...
يتبع