قصة جريج العابد عبر ومعجزات

  • PDF


لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ
قصة جريج العابد.. عبر ومعجزات
كان في الأمم السابقة أولياء صالحون وعباد زاهدون وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل وأظهر على أيديهم الكرامات بعد أن تربص به المفسدون وحاولوا إيقاعه في الفاحشة وتشويه سمعته بالباطل..
وقد قصّ علينا خبره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
<لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم وصاحب جريج وكان جريج رجلاً عابدًا فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمُّه وهو يصلي فقالت: يا جريج. فقال: يا رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج. فقال: يا رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج. فقال: أي رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.
فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته وكانت امرأة بغيّ يُتَمثَّلُ بحسنها فقالت: إن شئتم لأفْتِنَنَّه لكم. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريج. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغيّ فولدت منك. فقال: أين الصبي فجاءوا به. فقال: دعوني حتى أصلي. فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطَعَنَ في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي. قال: فأقبلوا على جريج يقَبِّلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا>.
كان جريج في أول أمره تاجرًا وكان يخسر مرة ويربح أخرى فقال: ما في هذه التجارة من خير لألتمسنّ تجارة هي خير من هذه التجارة فانقطع للعبادة والزهد واعتزل الناس واتخذ صومعة يترهَّب فيها وكانت أمُّه تأتي لزيارته بين الحين والحين فيطلّ عليها من شُرْفة في الصومعة فيكلمها فجاءته في يوم من الأيام وهو يصلي فنادته فتردد بين تلبية نداء أمه وبين إكمال صلاته فآثر إكمال الصلاة على إجابة نداء أمه ثم انصرفت وجاءته في اليوم الثاني والثالث فنادته وهو يصلي كما فعلت في اليوم الأول فاستمر في صلاته ولم يجبها فغضبت غضبًا شديدًا ودعت عليه بأن لا يُميته الله حتى ينظر في وجوه الزانيات -ولو دعت عليه أن يُفتن لفتن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى- فاستجاب الله دعاء الأم وهيّأ أسبابه وعرّضه للبلاء.
فقد تذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته وزهده فسمعت بذلك امرأة بغي يضرب الناس المثل بحسنها وجمالها فتعهدت لهم بإغوائه وفتنته فلما تعرضت له لم يأبه بها وأَبَى أن يكلمها ولم يعرها أي اهتمام فازدادت حنقًا وغيظًا حيث فشلت في ما ندبت نفسها له من فتنة ذلك العابد فعمدت إلى طريقة أخرى تشوِّه بها سمعته ودبرت له مكيدة عظيمة فرأت راعيًا يأوي إلى صومعة جريج فباتت معه ومكنته من نفسها فزنى بها وحملت منه في تلك الليلة فلما ولدت ادَّعت بأن هذا الولد من جريج..!
فتسامع الناس أن جريجًا العابد قد زنى بهذه المرأة فخرجوا إليه وأمروه بأن ينزل من صومعته وهو مستمر في صلاته وتعبده فبدءوا بهدم الصومعة بالفئوس فلما رأى ذلك منهم نزل إليهم فجعلوا يضربونه ويشتمونه ويتهمونه بالرياء والنفاق ولما سألهم عن الجُرم الذي اقترفه أخبروه باتهام البغيّ له بهذا الصبي وساقوه معهم وبينما هم في الطريق إذ مروا به قريبًا من بيوت الزانيات فخرجن ينظرن إليه فلما رآهن تبسّم ثم أمر بإحضار الصبي فلما جاءوا به طلب منهم أن يعطوه فرصة لكي يصلي ويلجأ إلى ربه..
ولما أتم صلاته جاء إلى الصبي فطعنه في بطنه بإصبعه وسأله والناس ينظرون فقال له: من أبوك؟ فأنطق الله الصبي وتكلم بكلام يسمعه الجميع ويفهمه فقال: أبي فلان الراعي. فعرف الناس أنهم قد أخطئوا في حق هذا الرجل الصالح وأقبلوا عليه يقبلونه ويتمسحون به ثم أرادوا أن يكفّروا عما وقع منهم تجاهه فعرضوا عليه أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب فرفض وأصرّ أن تُعاد من الطين كما كانت ولما سألوه عن السبب الذي أضحكه عندما مروا به على بيوت الزواني قال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليَّ أمي.
هذه هي قصة جريج كما رواتها لنا كتب السُّنَّة وهي قصة مليئة بالعبر والعظات تبين خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسان وأن كل هذه المحن والابتلاءات التي تعرّض لها ذلك العبد الصالح كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه.
كما تؤكد هذه القصة على ضرورة الصلة بالله ومعرفته في زمن الرخاء وأن يكون عند الإنسان رصيد من عمل صالح وبر وإحسان ينجّيه الله به في زمن الشدائد والأزمات كما أنجى جريجًا وبرّأه من التهمة بسبب صلاحه وتُقاه.