الفضيل ورتلاني.. للتضحية عنوان "ج2"

الأحد, 18 يونيو 2017


--------- الجزء الثاني والأخير---------

************بقلم: ســــــامي بن كرمي************

تقاربت الأفكار والأساليب والأهداف بين حركة الإخوان المسلمين وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين حينذاك، ومن بين الشواهد على ذلك أن رائد الحركة الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى أسس مجلة فكرية دعوية في القاهرة سماها بمجلة الشهاب تيمنا بإصدار جمعية العلماء المسلمين في الجزائر. وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس ذا سمعة عالية في أوساط المفكرين والدعاة في القاهرة، وحيث أن الشيخ الورتلاني من تلامذته المقربين، فواصل هذا الأخير في نهج الحركة الدعوية والإصلاحية وانتسب إلى حركة الإخوان المسلمين وأيضا حركة الشبان المسلمين. روج لقضية استقلال الجزائر ومحاربة الاستدمار،كما اهتم بالقضايا المصيرية للأمة فكان أحسن سفير في ذلك،فما فتئ يبذل وقته وجهده في سبيل تحقيق الإصلاح.

ابتداء منسنة 1944ساهم في تأسيس جمعية الجاليةالجزائرية، واللجنة العليا للدفاع عن الجزائر في مصر، ثم جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا، وكان أمينها العام، ومكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان نائب رئيسه.

نسج الشيخ الورتلاني باهتماماته علاقات تعدت القضية الجزائرية، فكان له تواصل مع الحركات التحررية في العالم الإسلامي واهتم بها وكتب عنها كثيرا في الجرائد والمجلات. ومن بين الشخصيات التي ربطته علاقات قريبة معها أمير شكيب أرسلان، ومحي الدين الخطيب، ورشيد رضا، وجمال عبد الناصر، ومحمد مصدق، وطه حسين وعباس محمود العقاد.

كان الشيخ الورتلاني من المقربين للشهيد حسن البنا، ولِما لمس لديه هذا الأخير من توافق في الرؤى وكذا قدراته الخطابية، كلفه عددا من المرات أن ينوب عنه في إلقاء كلمته في اللقاء الأسبوعي الذي كانت جماعة الإخوان المسلمين تنظمه يوم الثلاثاء.

سنة 1947، وتحت لواء حركة الإخوان المسلمين، وبتكليف مباشر من زعيمها، انتقل الشيخ الورتلاني إلى عدن حيث أقام وأسس شركة تجاريةفيها. كان اليمن السعيد يئن تحت جور حاكمه الإمام يحيى حميد الدين ولم يكن ذلك ليدع شيخنا الفاضل دون اهتمام، وهو الذي أزمع على مقارعة الظلم أين ما كان في العالم الإسلامي، فوحدة العقيدة تجمع المسلمين قبل وحدة اليابسة، وما يضر إندونيسيا وجب أن يقف ضده المغرب الأقصى. تنقل الشيخ الورتلاني كثيرا في ربوع اليمن، والتقى بزعماء القبائل. ألقى الخطب والمواعظ في المساجد والمجالس، أجج الهمم وشد على الأيادي، كان خطيبا وفصيحا بارعا، تَلُج كلماته إلى أعماق القلوب، فتجد المفاتيح لإحيائها تحت راية الإسلام والعقيدة، فنجح في توحيد صفوف المعارضة ضد الحاكم الجائر، وشهد له بذلك أهل اليمن. قال عنه أحمد الشامي أحد المشاركين في هذه الثورة: "إن العالم المجاهد الجزائري السيد الفضيل الورتلاني هو الذي غير مجرى تاريخ اليمن في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي)، وأنه حين وضع قدمه على أرض اليمن كأنما وضعها على "زر" دولاب تاريخها، فدار بها دورة جديدة في اتجاه جديد، لأن ثورة الدستور سنة 1367هـ 1948م هي من صنع الورتلاني".

قامت الثورة وقتل الإمام يحيى حميد الدين وتولى السلطة الثوار الأحرار، ولكن لم يدم ذلك طويلا، حيث قام الإمام أحمد يحيى حميد الدين بثورة مضادة بعد ما جمع عددا من القبائل الموالية وبتأييد من السعودية، فتمكن مجددا من الحكم وأودع قادة الثورة السجن وحكم عليهم بالإعدام. تمكن الشيخ الفضيل الورتلاني من الإفلات من اليمن بعد ما حكم عليه أيضا بالإعدام، فأصبح طريدا متخفيا، رفضت الدول العربية استقباله، فمكث على متن باخرة جابت البحر المتوسط شهرين كاملين إلى حين وافقت لبنان على استقباله شريطة أن يتم ذلك سرا.

بعد الثورة المصرية التي أطاحت بالملك فاروق بتاريخ 23 يوليو 1952، عاد الشيخ الورتلاني معززا مكرما إلى القاهرة واستقبل فيها بحفاوة وكرم كبيرين. مما قال فيه علي أحمد باكثير في قصيدته"تحية المجاهد الكبير الأستاذ الورتلاني":

أفضيل هدى مصر تحتفل        بلقاك ما نعمه إليها البطل

أحسبت لا أهل ولا وطن                  وعدوت لا سفر ولا نزل

لم تقترف جرما تدان به          كلا ولكن هكذا البطل

سخر الشيخ الورتلاني نفسه لنجاح الثورة المصرية إذ كان يرى بأن نجاحها سيصيب بخير وفير باقي الثورات التحررية في الوطن العربي والإسلامي وعلى رأسها القضية الأم بالنسبة له، أي القضية الجزائرية، فاقترح لقادتها أن يتحرك صوب معارفه في العالم لفك العزلة عن مصر وجمع الأموال اللازمة لبعث مشاريع التنمية في البلد. إلا أنه وبعد التضييق الشديد والاعتقالات والإعدامات التي أصابت أعضاء حركة الإخوان المسلمين ابتداء من سنة 1954، جعلته يغير موقفه إزاء حكام مصر حينها وأن ينسحب من أي نشاط معهم، فلما أحس بالطوق الذي بدأت تفرضه عليه المخابرات المصرية، غادر بداية 1955 متجها إلى بيروت.

في شهر ديسمبر 1953 ألقى الشيخ الورتلاني خطابا خلال المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي انعقد في القدس الشريف. وقد سبقه صيته أمام الحضور، وعرفانا لجهوده لصالح القضايا التحريرية في العالم الإسلامي وعلى رأسها قضية الجزائر وقضية فلسطين، فتقرر تعيينه مندوبا خاصا لتمثيل كل من المؤتمر الإسلامي العالمي ومؤتمر علماء الإسلام خلال رحلاته الدولية.

في غرة نوفمبر 1954، انطلقت في الجزائر ثورة التحرير المباركة، وقد كان للشيخ الورتلاني الحظ الوافر لخدمة القضية من خلال علاقاته وسفراته إلى الدول الإسلامية، فكان أحسن سفير للقضية. حباه الله تعالى بذكاء خارق وفصاحة غير اعتيادية وقوة إقناع نادرة، سخر كل ذلك في تسويق القضية، مبينا أبعادها وضرورة مساندتها. بتاريخ 3 نوفمبر 1954 أصدر بيانا مما قال فيه " إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر اليوم حياة أو موت" وعاد وأصدر بيانا ثانيا مطولا برفقة الشيخ بن باديس قالا فيه " نعيذكم بالله أن تتراجعوا" و "إن التراجع معناه الفناء، إن فرنسا لم تبق لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري، إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها".

شارك الشيخ الورتلانيفي تأسيس جبهة تحرير الجزائر في 17 فبراير 1955وضمت كل من الشيخ الإبراهيمي، وممثلين عن جبهة التحرير الوطني مثل أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد خيضر، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية الأخرى مثل الشاذلي مكي وحسين لحول وعبدالرحمن كيوان وأحمد بيوض. وكان الهدف منها خدمة القضية الجزائرية ومساندة الثورة. كما عُيِنَ أيضا ابتداء من سنة 1955 عضوا قياديا بمكتب جبهة التحرير الوطني بالقاهرة، وعُيِنَ مندوبا لها في تركيا سنة 1956 فسعى حثيثا خلال سفراته إليها لإقناع أصحاب القرار فيها بعدالة الثورة الجزائرية وأحقية الشعب الجزائري بالاستقلال، خاصة وأن تركيا كانت عضوا في الحلف الأطلسي.

ترك الشيخ الورتلاني بيروت واستقر في تركيا. واصل عمله بكل تفان وإخلاص خدمة للقضية المحورية: استقلال الجزائر. ما كان لبشر أن يبذل ما بذل الشيخ الورتلاني خلال مسيرته من جهود وسهر وسفر من دون أن تعتل صحته. ما كان هو ليبالي بذلك، فهدفه كان في سبيل الله بخدمة وطنه وأمته. نال منه المرض ما نال، وتغلغلت الأسقام في جسده النحيف، وما كان يعبأ بذلك، لقناعته بأن آخر نَفَسٍ له سيكون في سبيل الله وسبيل القضية.

بتاريخ 12 مارس 1959 في غرفة عمليات جراحية في مدينة أنقرة التركية حلت ساعة الرحيل، وصعدت نفسه الزكية إلى بارئها، وترجل من على صهوة جواده.

توفي الشيخ الجليل والمجاهد المغوار وحامل قضايا الأمة في صمت وغياب رهيبين. دفن في أنقرة، وظلت رفاته هناك إلى غاية سنة 1987، وبالتحديد 12 مارس حيث تم نقل رفاته الطاهرة إلى مسقط رأسه بعد موافقة السلطات الجزائرية بذلك.

قال عنه الثائر اليمنىمحمد محمود الزبيرى"لا أظن أنه يوجد للفضيل الورتلانى نظير في العالم الإسلامي علما وكمالا وإخلاصا وهيبة وجلالا". أيهم من النخبة من قال مثيل هذا؟

من خلال ملحمة الشيخ الفضيل الورتلاني عرفنا معنى الإخلاص ولو عرفنا معنى الإخلاص، عرفنا حتما معنى الخيانة.

الشيخ الورتلاني شخصية فريدة من نوعها، مثال للإخلاص والتفاني والبذل في سبيل معتقداته. هو واحد من عظماء كُثُرٍأنجبتهم الجزائر ونُسِّيَفيه الجزائريون. لا أجرؤ أن أتخيل أنه لو تجولت في ربوع الجزائر وسألت أي أحد ماذا تعرف عن الشيخ الورتلاني، ماذا سيكون الجواب يا ترى؟يا حسرة علينا، ألا نستحق صيرورتنا؟ فوالله لعله بسبب نكراننا لمن لهم الفضل الكبير علينا أننا تخبط فيما نتخبط فيه الآن.

رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه وألقنا به وبإخوانه الصادقين في جنة الرضوان.

والله من وراء القصد.