الاستعمار في نفوسنا!

الأحد, 16 يوليو 2017

بقلم: أبو القاسم سعد الله*

كنت أتصفح هذه الأيام يومياتي المطبوعة حديثا فوجدتني كتبت فيها بتاريخ 11 جوان 1956 أنني قرأت في هذا اليوم مقالة لإحسان عبد القدوس في مجلة روز اليوسف المصرية عن مالك بن نبي. وعندما عدت بالذاكرة إلى سنة 1956 لم أتذكر بالضبط ما قرأت ذلك اليوم عن الفيلسوف الجزائري اللاجئ إلى القاهرة. وتمنيت لو أن أرشيف هذه المجلة كان قريبا مني لأعود إليه وأعرف ماذا كتب ذلك الأديب المصري الشهير عن ابن نبي. ولكن (ما كل ما يتمنى المرء يدركه).
بقيت الفكرة تراودني إلى أن زرت القاهرة في المدة الأخيرة فاغتنمت الفرصة وعزمت على الاطلاع على المقالة والعودة بنسخة منها إلى الجزائر.
وقلت في نفسي: إذا كانت المقالة تستحق كل هذا التعب في البحث عنها فسأنشرها على من يهمه تراث مالك بن نبي كوثيقة تاريخية. ومن حسن الحظ أنني رجعت فعلا بالمقالة من القاهرة ورأيت أن فيها ما يستحق القراءة والتأمل سيما في عشريتنا هذه.
فقد ظهر لي أن فكرة ابن نبي عن القابلية لاستعمار واضحة ومركزة في مقالة أو حديث الذي جرى معه أكثر مما عليه فيما قرأت له عنها في مؤلفاته وعلى كل حال فإني أقدم المقالة بحذافيرها للنشر ليحكم المختصون في الدراسات (البنابية) على محتواها ولا أرغب هنا سوى في إضافة القول أنني تركت متن المقال كما هو بما في ذلك عنوانها.
وإحسان عبد القدوس الذي أجرى المقابلة مع مالك بن نبي غني عن التعريف فهو كاتب وصحفي ناجح كان اسمه في الخمسينيات من القرن الماضي ملء الفضاء الأدبي في مصر وهو صاحب عدة روايات أفهمت دنيا الشباب بالأمل والطموح كما حولها المنتجون السينمائيون إلى أفلام ناجحة.
كما أن مجلة روز اليوسف الأسبوعية كانت من أكثر المجلات المصرية مقروئية لتقنياتها الحديثة ومواضيعها الظريفة والحساسة في نفس الوقت.
وعقب الحرب الأولى ولكن لم تستطع أية دولة من هذه الدول أن تستعمرها ظلت دائما محتفظة بشخصيتها وروحها ومجتمعها وأهدافها… وتركيا مثلا… ليس فيها جيش احتلال ولكن فيها استعمار… استعمار امتص شخصيتها وروحها ومثليتها ومجتمعها.. وقد أخطانا نحن في البلاد العربية عندما تصورنا أن الاستعمار هو الاحتلال وأن الجلاء هو الحرية.
وكان من نتيجة هذا الخطأ في التفسير أننا وجهنا كل كفاحنا ضد الجيوش الأجنبية لا ضد (الشخصية) الأجنبية ولا ضد الفكرة الأجنبية التي تولد بالتالي النفوذ الأجنبي ثم أخطأنا مرة ثانية عندما كافحنا الاستعمار في مظاهره الخارجية التي تنحصر في تعدي بلد على بلد.. ولكننا لم نكافح جوهره وهو قابليتنا نحن الدول العربية للاستعمار.. هذه القابلية التي مهدت الطريق لثلاثين مليون انجليزيا لاستعمار ستمائة آسيوي.. والتي سهلت لدولة صغيرة كهولندا أن تستعمر إندونيسيا كلها كان يجب أن نوجه كفاحنا ضد أنفسنا.. ضد انحلالنا… ضد تفكك مجتمعنا.. ضد النقص الروحي الشنيع الذي نعانيه. ما الذي يولد القابلية للاستعمار؟.
إنه سؤال متعلق بمدينة كل دولة.. والمدينة تبدأ دائما بدعوة روحية وتدفعها العاطفة المتعلقة بهذه الدعوة لا العقل في طريق الصعود إلى أن تصل إلى قمة التشبع الروحي أي: قمة الإيمان بالدعوة وبعد ذلك تسير أي المدينة في خط أفقي يسيطر عليه العقل.. العقل الذي يبدأ في السيطرة على الدولة والمجتمع.. ويظل العقل يسير بالمدينة إلى الأمام وهو في كل خطوة يبتعد عن الدعوة الروحية.. عن الفكرة المثالية.. عن الأيديولوجية…إلى أن يصل المجتمع إلى حد تتغلب فيه المادية الفردية والجسدية على الروح والمبدأ فيبدأ في الانحلال وتبدأ المدينة في الهبوط إلى الأسفل إلى أن تصل إلى الحضيض.. فلا يعود هناك مجتمع بل مجرد مجموعة من الأفراد لا رابط بينهم.. ولا تعود هناك فكرة بل مجرد مصالح فردية.. وفي خلال هذه المرحلة تتولد القابلية للاستعمار شيئا فشيئا.. حتى تصبح الأمة كالثمرة الفاسدة لا يكاد المستعمر يهز شجرتها حتى تسقط تحت أقدامه.. وقد مرت المدينة الإسلامية مثلا بكل هذه المراحل…نبتت من دعوة روحية.. من أيديولوجي أو مثالية غذت الروح الشعبية ودفعتها إلى الصعود حتى وصلت إلى قمة الإيمان… ثم بدأ العقل يسيطر على الدولة الإسلامية… وابتعد العقل عن مثل الدعوة وروحانيتها فبدأ الانحلال … وبدأ الهبوط … وبدأت المقاومة تضعف ويصبح جسد الأمة قابلا للاستعمار..
وقد أرسل يوما ملك إسبانيا سفيرا له إلى مراكش.. وكانت مراكش تجتاز أزهى عصورها.. ورغم ذلك فقد أرسل السفير إلى ملكه يقول له: إني أجد كل شيء يعد لتكون هذه البلاد ملكا لمولاي… ولم يكتب السفير هذه الكلمة إلا بعد أن أحس بانحلال المجتمع المراكشي وسيطرة العقل الفردي على مثالية الدعوة… وفعلا تم لملك إسبانيا احتلال مراكش بعد قرن كامل من خطاب السفير.. وفي خلال هذا القرن كانت مراكش قد وصلت إلى درجة القابلية للاستعمار!
فالاستعمار إذن تسبقه حالة القابلية للاستعمار! والقضاء على القابلية للاستعمار هو طريق القضاء على الاستعمار.. كيف نقضي على هذه القابلية؟
بأن نجد الفكرة المثالية أو المذهب (أيديولوجي) وأنا إلى الآن لا أجد كلمة عربية تعبر عن لفظ: أيديولوجي نجد الفكرة التي تصلح لتكون نواة يلتف حولها الأفراد ليكونوا مجتمعا سليما يندفع في طريق الصعود وهم في صعودهم يبنون حولهم مدينة خاصة متميزة تقضي على قابليتهم للاستعمار وتحميهم بالتالي من الاستعمار.
وقد كانت الأمة الروسية في عهد القيصر أمة منحلة.. لا مذهب لها ولا إيمان… وكانت أمة تستعمرها شخصية أجنبية شخصية أوروبا الغربية.. وكان يمكن أن تسير في طريق الانحلال إلى نهايته لو لا أنها وجدت الفكرة أو: المذهب الذي كان نواة لمجتمعها الجديد والذي قضى على قابليتها للاستعمار وبالتالي حصنها منه. إن الفكرة أو المذهب بمثابة حقنة تطعيم ضد الاستعمار.. وكل ما تحتاجه الدول التي تقاوم الاستعمار هو أن تقضي أولا على قابليتها للاستعمار بأن تجد الإيمان المذهبي الذي تلتف حوله… وهذا الإيمان المذهبي لا يستورد من الخارج لا يمكن أن نستورد الشيوعية من روسيا أو الرأسمالية من أمريكا.. ونتخذها إيمانا لنا نحاول أن نبني به مدينتنا بل يجب أن تنبثق الدعوة من صميم حياتنا أو من صميم بيئتنا.
وكثير من زعماء الدول التي تقاوم الاستعمار لا يعلمون هذا.. ولا يحاولون أن يبنوا كفاحهم على دعوة مذهبية يلتف حولها الأفراد وتصلح لخلق مدنية جديدة…إنهم يرددون كلمات (الحرية) والاستقلال و(الجلاء).. دون أن يضعوا معان مذهبية لهذه الكلمات.. دون أن يحددوا الطريق الطويل والهدف ويقيموا عمد الإيمان… وكأنهم بذلك يملؤون (القربة) الممزقة بالهواء… وقد تخلق كلماتهم جموعا من المجانين المندفعين المستشهدين… ولكن المجانين لا يصنعون الحريات إنما يصنعها المؤمنون عندما يتمكن منهم الإيمان حتى يبدو كأنه الجنون!
وبعد…
لقد قلت: إني أجد صعوبة في كتابة المواضيع الفلسفية… ولعلي استطعت أن ألخص لكم الحديث الفلسفي الممتع الذي دار بيني وبين الأستاذ الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي…



الهوامش:
1- حديث أجراه الصحفي الأديب إحسان عبد القدوس مع مالك بن نبي ونشره في مجلة روز اليوسف المصرية.
إحسان عبد القدوس مجلة روز اليوسف عدد 1461 سنة 1956
* منقول من كتاب حاطب أوراق ص 47 للدكتور أبوالقاسم سعدالله رحمه الله