العراق والغرب: الإعدام مقابل الإعمار

الخميس, 14 مارس 2019

بقلم: مثنى عبد الله
فجأة تخلت الدول الأوروبية عن قيمها المتعلقة بحقوق الإنسان وشعاراتها البراقة في هذا المجال. تلك التي صدّعت بها رؤوسنا واحتلت من أجلها بلداننا من أجل أن تشيعها بيننا كما أدعت. فلم يكد تهديد الرئيس الأمريكي ترامب لهم حين خيّرهم بين أخذ مواطنيهم ممن انتموا إلى تنظيم الدولة أو إطلاق سراحهم الذين تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية حتى سارعوا إلى خيار المقصلة العراقية التي تبعدهم عن كل الصداع الذي قد يسببه هذا الملف لهم.
لقد حصل إرباك كبير في معظم العواصم الاوروبية بعد تهديد ترامب أوضحته التصريحات المتناقضة والمترددة من قبل معظم القادة الاوروبيين. أنغيلا ميركل الزعيمة الألمانية رأت محاكمة هؤلاء في المكان نفسه المتواجدين فيه. وهي البقعة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. وهنا برزت مسألة أن هذه ميليشيات وليست دولة. وليست لديها قوانين ومحاكم كما هو متعارف عليه. كما أن سجونها وطواقم الحماية المكلفة بحجز هؤلاء ليست كافية. هولندا جزّأت المسألة ودعت إلى التعامل الإنساني مع النساء والأطفال وإعادتهم إلى بلدانهم. بريطانيا وفرنسا قالتا بضرورة سحب الجنسية وترك هؤلاء يواجهون مصيرهم مع الدول التي يحمل آباؤهم جنسياتها.
كل هذه الخيارات والتصريحات تشير إلى أن إدارة هذا الملف ليست باليسيرة في ظل الاعتبارات الأمنية والقضائية التي يفرضها. كما أن استحقاقات ما بعد الحرب هي ليست كما في الحرب. هنا برزت ثلاثة خيارات حاسمة أمام الدول الغربية لمعالجة مسألة عودة مواطنيهم من القتال في سوريا. فقبول عودتهم إلى أوطانهم التي جاءوا منها قضية بالغة الخطورة في ظل الانخراط الأيديولوجي لهؤلاء وتشبعهم بالأفكار التي كان يدعو إليها تنظيم الدولة. صحيح أن هنالك تحقيقات ومحاكمات سوف يواجهها هؤلاء لكن ضآلة المعلومات الاستخبارية الصادرة من بقعة القتال ستؤدي إلى صدور أحكام مخففة عليهم لعدم وجود أدلة إدانة قوية وكافية وإذا لم يتم تسلمهم فإن ترامب سيوعز بإطلاق سراحهم كما قال. وفي حالة حصول ذلك فإن تسربهم وانتقالهم إلى دول أخرى وربما عودتهم إلى بلدانهم بدون علم السلطات ستكون المشكلة أعظم وأكبر لأنهم سيكونون خارج السيطرة الأمنية. أما الخيار الثالث فهو تسلمهم من قبل الحكومة السورية. حينها ستعرف السلطات كيف تبتز الدول الغربية بهم خاصة أن هذه الدول انخرطت في الحرب السورية وبات لسوريا ثأر كبير معهم.
رغم مصادقة العراق على معاهدة جنيف التي تتيح له محاكمة الأجانب على أراضيه لكن ذلك لم يتم تضمينه كبند في القانون العراقي


ولأن سوريا بلد حماية ونفوذ روسي بعيد عن الغرب. وأن فتح باب التعامل مع السلطات السورية بشأن هذا الملف ليس مضمونا وربما ذو كُلف كبيرة. ولأن العراق دولة ذات أجهزة متهرّئة يمكن فيها صناعة الأدلة الجرمية بسهولة وانتزاع الاعترافات الكاذبة تحت وطأة الضغط البدني. ولأن الحكومة فيه وليدة الغرب وحربه الماكرة بدلائل كاذبة وهي تبحث عن شرعية من خلال تكليف غربي كي تظهر إلى العلن بأنها نافعة لهم وقادرة على تقديم الخدمات. هنا تحرك النفاق الغربي باتجاه الاخيرة للتخلص من هذا الملف فمقاتلو تنظيم الدولة كانوا قد جعلوا العراق وسوريا ساحة واحدة وأن من أجرم منهم في سوريا أجرم في العراق كذلك عليه لا داعي لمزيد من الجهد والوقت في البحث عن الدلائل والمستندات التي تدين. أعدموا مواطنينا وسنتكفل بإعمار مدنكم التي خربتها الحرب. هذه هي المعادلة الجديدة التي قبل بها العراق بلا حياء وقبل بها الغرب بلا خجل.
ففي العراق يمكن محاكمة هؤلاء لأنه محل ارتكاب الجرائم وهو محل الاختصاص القانوني بمعنى أن من ارتكب الجرائم على الأراضي العراقية فالقانون يسمح بمحاكمته فيها بغض النظر عن جنسيته. لكن لا توجد مادة قانونية في أصول المحاكمات الجزائية العراقي تتعامل مع هذا الملف الشائك. وهنالك فراغ قانوني في ما يتعلق بما يسمى عمليات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وعلى الرغم من مصادقة العراق على معاهدة جنيف التي تتيح له محاكمة الاجانب على أراضيه لكن ذلك لم يتم تضمينه كبند في القانون العراقي. إذن لماذا يتطوع العراق لممارسة دور المقصلة لمواطنين غربيين؟ ببساطة تامة هو أن سلطة بغداد بحاجة إلى دور أي دور كان لأن الفشل في ممارسة الدور الذي يفرضه الموقع الجغرافي والتاريخ سبب حرجا خارجيا لهم. كما أن العجز في إعادة بناء المدن سبب رفضا داخليا لهم حتى في الحواضن التي يدعون أنهم يمثلونها لذلك قبلوا بهذا الملف كي يقال إن العراق عاد إلى ممارسة دوره الوظيفي في المنطقة والعالم وإن مسيرة الإعمار التي وعدوا بها شعبهم بدأت. أما الغرب وعلى الرغم من أنه على اطلاع واسع بالملاحظات الكبيرة على عدم إمكانية إجراء محاكمات عادلة في العراق فإن قبوله يعني بأنه مصلحي المنطق وهو على استعداد لقبول محاكمة مواطنيه في محاكم غير قانونية. وفي دولة غير معنية بحقوق الإنسان ومن الصعوبة على المنظمات الحقوقية المحلية والدولية مراقبة هذه المحاكمات وهل ستُراعى فيها معايير المحاكمات العادلة من عدمه وأن تكون بمتابعة قانونية منذ المحاكمات الابتدائية إلى صدور قرار التجريم. وهذه جريمة إنسانية كبرى يرتكبها الغرب. وآخر دليل هو أن منظمة هيومن رايتس ووتش أعلنت في تقرير حديث أن السلطات العراقية تحتجز حوالي 1500 طفل وليس بالغا بتهمة الإرهاب وإن الإجراءات التعسفية ضد هؤلاء تنتهك القانون الدولي فإذا الحال هذا مع الاطفال فكيف سيكون مع الكبار؟
إن الصور المروعة التي وصلت من العراق وسوريا التي ارتكبتها عناصر التنظيم كان فيها الكثير من الصدمة والترويع لمجتمعاتهم الغربية وقد شكل ذلك ضغطا كبيرا على صانع القرار السياسي في تلك الدول لكن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال أن يكون مُبررا لتخلى هذه الدول عن إرثها القانوني والجنوح لعقد صفقات مع دولة كالعراق تشهد ساحات التحقيق فيها كوارث إنسانية ومخالفات قانونية فاضحة في المحاكم كي تتخلص من مواطنيها الذين ارتكبوا جرائم. فالواجب يقتضي أن تكون مهيأة لمواجهة هذا الامتحان مسبقا من خلال تشريعات عقابية ثم بأساليب حضارية علمية لإعادة تشكيل الوعي والاندماج في المجتمع لهؤلاء أي أن المسؤولية الملقاة على عاتق الغرب تفرض عليهم النظر إلى القضية من الزاوية الأمنية مع مقاربات على الصعيد الاجتماعي والنفسي.
لقد أقدم العراق وفرنسا على عملية تخادم غير شريفة من خلال الاتفاق على محاكمة الفرنسيين في المحاكم العراقية كطوق نجاة للرئيس الفرنسي الذي يعاني من مشاكل داخلية كبيرة مقابل دعم مادي في مجال إعمار المدن العراقية.