مبارك بن محمد الميلي رجل من زمن النهضة الجزء الثاني

  • PDF


مبارك بن محمد الميلي .. رجل من زمن النهضة
الشيخ: التواتي بن التواتي
الجزء الثاني


عندما أحدثكم عن مدينة الأغواط قد لا أكون موضوعيا لأنها بلدتي ومسقط رأسي ومحل تكوين طينتي منذ أن خلق الله بني آدم وإنما أخبركم عن لفظ الأغواط الذي هو مأخوذ من اسم قبيلة من قبائل مغراوة إذ آغواط بطن من هذه القبيلة الكبرى مغراوة يقول عنها ابن خلدون وقد نزل بها عابر سبيل: إن قبيلة آغواط من أشد القبائل الأمازيغية امتناعا من العرب وذلكم قبل الإسلام فلما فهم أهلها الإسلام تحولوا إلى أشد القبائل دفاعا عن الإسلام والعروبة.(انظر تاريخ مبارك الميلي الجزء الثاني).
أما الحياة في هذه البلدة والعيش بين أهلها فنترك الشيخ مبارك الميلي هو الذي يعطينا صورة عن هذه المدينة وأهلها يقول-رحمه الله تعالى: الأغواط من الواحات الجميلة التي قلّما يتَفَلََّت قلبُ نزيلِها من جاذبية جمالها والذي يزيده روعة دماثةُ أخلاق أبنائها البررة ونشاطُهم المتجدد وذكاؤهم المفرط ونزوعُهم إلى استدرار أفاويق اللذة المعنوية وتفانيهم في البحث عن مناحي الحياة المستجدة ليشاركوا هواءها في استنشاق نسيمها شأن من يهوون بأفئدتهم إلى الحياة وكل ما فيها من طريف وتراهم إلى جانب تلك الخصائص أشد المحافظين العاملين على صيانة التقاليد العربية من شمم وإيباء الذائدين على التعاليم الإسلامية الصحيحة مع اتخاذ التسامح شعارهم فيما يدعم هذه وتلك ويطبعها بطابع الجديد الصالح وإن واجههم-رغم ذلك الاعتدال- ما يوجه أمثالهم طبعا في كلّ بلاد هي تحت نير العادات الرثة من المصاعب والقحم (الهلاك) والمعاكسة في طريق العلم والنهوض لا يحجمون عن التضحية مهما غلا ثمنها ومهما كان فيها من حرج ومضض. 
ولهم ميراث يمتازون به وهو الجرأة في سبيل الواجب والمرونة والتكيف حسب الظروف العصيبة في غير هوادة ولا مماكسة إذا كان الواجب قد قضى بذلك والتحايل على إخضاع تلك الظروف الجامحة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا على أن وجود هذه الصفات في بلاد هي أغنى بلاد الجزائر بالاكفاء ليس فيه ما يدعو إلى الدهشة. انتهى كلام الشيخ. أمثلة تدشين مدرسة الشبيبة بعد رحيل الشيخ.
وشاءت الحكمة الإلهية أن تزوره جماعة تشاركه النزعة العلمية جاءت إلى الأغواط تبحث عن مبارك الميلي وقد طالت غيبته ولم يسمعوا عنه خبرا وأين وصل بما أنيط به فقال أحدهم: كنا نخشى أن يكون قد فشل في المهمة مثل غيره وخاصة وأن الظروف صعبة في ذلك الوقت ثم قال بعد أن عاين ووجد غير ما كان يعتقد: كلما امعنت في البحث عن سير المدرسة وموقف أستاذها الحازم وما أحرزه عليه تلامذته من المعلومات وجدت ما يبهج وفوْق ما كنت أقدر فوجدت أن الرجل أسس مدرسة تامة المرافق ومجهزة بجميع الأدوات وأن التلامذة من ناحيتهم قد بدؤوا في هذا المدى اليسير يتذوقون حلاوة العلم والمعرفة وإن منهم بالأخص عشرة حصلت لهم ملكة التفكير والبحث وظهرت عليهم مخايل النبوغ.
أما الأستاذُ من ناحيته فحسبه أنه مكونُ هذا الوسط المبهج ومغذي هذه الروح الوثابة ومنجدُ هذه البلاد العزيزة وملهمُ هذه الأفكار وناشرُ ألْوِيَّة هذه المعارف الغضة وغارسُ التعاليم الإسلامية الصحيحة في النفوس ومبيدُ كل ما لا يتفق والشرع الشريف ومروّضُ العقول على كيفية احترام الوازع الديني.
ويظهر مع ذلك أنه يطمح إلى ما هو أبعد من ذلك ويدل على هذا أنني سألته في أثناء محادثتنا عن مبلغ ارتياحه لهذه النتيجة المحسوسة فأجابني: إن هذه النتيجة ما هي في نظري إلاّ نزر يسير مما كنت أؤّمّ لُ وأقدر.
من خلال قراءتي لما دار بين الرجلين فهمت أن الشيخ مبارك الميلي كان يتمنى توحيد برامج التعليم الذي يجب عليه السير في جميع المدارس الجزائرية آنذاك.
وقد أفصح الشيخ مبارك عما يعانيه رغم وما وصل إليه من نتائج على رغم العوائق التي منعته من الوصول إلى الشأن الذي قدره رغم أن بعض العائلات الأغواطية التي لها مكانتها أحاطته بالعناية وعطفت عليه وكانت رهن إشارته بل حمته من كيد الكائدين ولا أكتمكم سرا فإن أذناب الاستعمار وعملائه أرادوا به كيدا إلى درجة محاولة قتله وقد حاولوا مرات عدة قتله فوقف دونهم أناس صفت عقيدتهم من الشوائب ففدوه بأنفسهم. 
وأذكر على سبيل المثال: البشير بن البيتر-رحمه الله-الذي صفت عقيدته من كل شائبة وسجِّلت مواقفُه الشجاعة بجانب الشيخ مبارك الميلي ولا زال بعض أولاد هؤلاء يفتخر بذلك ولهم ذلك وحق لهم الافتخار بتلك المواقف المشرفة يقول أحدهم مفتخرا-: إن أبي صرع ما يقرب من ثمانية عملاء للاستعمار حين هاجموا الشيخ مبارك. وقد حكى لي هذا أيضا زميلي في التعليم الأستاذ لخضر واعر-رحمه الله-. 
وأذكر واقعة أخرى أن أحدهم تربص بالشيخ مبارك الميلي في المسجد العتيق وكان الشيخ في درس التفسير وبالتحديد تفسير سورة الزلزلة فراح مختفيا وراء سارية من سواري المسجد وهو يسمع للدرس فنهض وقال: ويلي ما أريد أن أفعل؟ وذهب إلى الشيخ وقال له: يا شيخ أترى هذا؟ قال له الشيخ في ثبات: نعم إنه قادوم قال: هذا أريد أن أقتلك به ولكني تبت وعلمت أني ظالم وراح يبكي كالطفل الصغير والشيخ يقول له في ثبات: الرجوع إلى الحق فضيلة أحمد الله لك إذ نجاك من ارتكاب جريمة وأأسف إذ حرمت من الشهادة. 
يتبع