هكذا صمد النظام الصحي في الحضارة الإسلامية أمام النكبات

  • PDF

الأوقاف.. كلمة السر السحرية
هكذا صمد النظام الصحي في الحضارة الإسلامية أمام النكبات
إن المتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية سيرى أُسسها قد قامت على مجموعة من المفاهيم والتطبيقات شديدة الدقة والأهمية وكلها استندت إلى نصوص القرآن والسنة النبوية وعلى المقاصد واجتهاد العلماء ومن أهم ما قامت عليه هذه الحضارة تنوّع مصارف الذمة المالية التي جاءت في الغالب من خلال عاملينِ أساسيينِ هما مصارف الزكاة والغنائم والفيء والخراج والعُشور والجزية والضرائب وهذه اختصت الحكومات بتوزيعها وتجميعها وإنفاقها كما تراه في المصالح العامة والعامل الثاني مصارف الأوقاف والصدقات وهي جوانب لم تتدخل الحكومات فيها بصورة مباشرة أو مكثّفة وإنما حرصت على مراقبتها ثم في مرحلة متأخرة استُولِيَ عليها مع مجيء الدولة الحديثة.
والأوقاف في الأصل مجموعة من الصدقات العينية مثل أراض وعقارات ومنقولات يجعلها صاحبها صدقة بتحبيس أصلها والاستفادة من ريعها وأرباحها لضمان الديمومة والبقاء وخدمة أكبر قدر ممكن من فئات الجماهير الذين أوقفت عليهم هذه الأوقاف أو الأحباس وقد ثبت أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في أرضه التي كانت في خيبر وكانت كثيرة الخيرات والثمار فأشار عليه بحبْس أصلها وجعل غلّتها وريعها في الفقراء والمساكين ففعل.
وحينما جعلَ عمرُ وقفه هذا في وثيقة مكتوبة وأشهدَ عليها وأعلنها على الناس في زمن خلافته ما بقي أهل بيت في الصحابة إلا وقف أرضًا أو عقارًا وكان منهم مَن جعل لذريته نصيبا في خيرات ما أوقف فنشأ بذلك الوقف الأهلي أو الذُّري وهو محض اختراع إسلامي لم تعرفه القوانين الغربية إلا في النصف الثاني من القرن العشرين بينما النوع الأول من الوقف الذي سُمّي الخيري جُعل في بادئ الأمر دينيًا في إقامة المساجد وتوزيع الصدقات.. 
وبحسب منذر قحف في كتابه الوقف الإسلامي فإن امتداد الوقف من المؤسسة الدينية إلى البرّ العام الذي يطول الخدمات الاجتماعية وتقديم المنافع والسلع كان ابتكارًا إسلاميا جاء به نبي الهُدى والرحمة صلى الله عليه وسلم.
وقد أحدثت الأوقاف ثورة ودافعا مهما في انطلاق وتقدُّم وازدهار الحضارة الإسلامية إذ فُتح الباب للخلفاء والأمراء والولاة والأغنياء والتجار بل وطبقات المجتمع الإسلامي كافة في وقف الأوقاف التي يرونها أنفع للناس والمجتمع فمنهم مَن جعل الأوقاف في بناء المساجد والجوامع ومنهم مَن جعلها للعلماء وطلبة العلم وأبناء السبيل ومنهم مَن وضعها للإنفاق على الفقراء والمساكين والأرامل ومنهم مَن أوقفها لبناء المدارس والجامعات ومنهم مَن جعلها للحيوانات المريضة والعاجزة ومنهم مَن حبسها للقطاع الطبي وغير ذلك من المجالات الدقيقة واللطيفة والغريبة والتي تُدلّل على مقدار عظمة الحضارة الإسلامية ويمكن أن ترجع لعلاَّمة الشام الدكتور مصطفى السباعي في كتابه من روائع حضارتنا لتقف على ذلك بشواهده وأدلته التاريخية اللافتة والمثيرة للتأمل.

وقد كان الدافع من وراء هذا الإنفاق السخي والاستثمار المالي وتنميته واستدامته في وجوه الخير والنفع العام والإبداع في ابتكار مجالات الإنفاق ابتغاء مرضات الله وطلبا لجنته وامتثالا لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة: إِلَّا مِنْ صَدَقَة جَارِيَة أَوْ عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ وكانت الأوقاف من أهم وجوه الصدقات الجارية للإنسان بعد موته.
*تنوع النظام الصحي
وقد تجلّى ذلك الإبداع الذي تمثّل في ديمومة واستمرار مؤسسات الحضارة الإسلامية في المجالات الصحية والطبية أيضا ولم تكن الدولة ولا الخزائن السلطانية هي التي صنعتْ أو موّلتْ هذه الملحمة الطبية الحضارية العظمى بل الأوقاف التي ساهمت في إنشاء وتشغيل تلك البيمارستانات أو المستشفيات وكان لهذه الأوقاف دور مهم وفريد في بنائها وتجهيزها والإنفاق المستمر الدائم عليها ورواتب الأطباء ومساعديهم والمختبرات وتمويل كليات الطب والصيدلة والمتدربين وطلبة العلم القادمين من الأصقاع كافة مثل ذلك البيمارستان (المستشفى) المنصوري الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون في القاهرة سنة 682هـ/1284م وكان مستشفى متخصصا للغاية حتى إنه ليُضاهي المستشفيات الحديثة في ذلك
وقد وصف ابن بطوطة ذلك الوقف الطبي للسلطان قلاوون بأنه يعجز الواصف عن محاسنه وقد أعدّ فيه من المرافق والأدوية ما لا يُحصر ويُذكر أن مجباه (إنفاقه) ألف دينار كل يوم . وكان لضخامة الأوقاف التي أوقفها السلطان قلاوون على البيمارستان وأثرها العميم قدرتها على استقبال المرضى من كل فئات المجتمع حيث كانت تلك الأوقاف تُدرّ ريعًا سنويًا مكّن البيمارستان من أداء مهامه دون أي خلل أو قصور لأن الأموال التي خُصّصتْ له كانت بعيدة عن سيطرة الدولة وأهوائها مع تعاقب السلاطين والملوك ونقيس على ذلك المستشفيات الأخرى كافة التي أنشأها السلاطين والخلفاء والملوك مثل البيمارستان النوري في دمشق وحلب والصلاحي في القاهرة والقدس وغيرها في عواصم وبلدان الحضارة الإسلامية.
وقد كثر إنشاء البيمارستانات التي أنشأها وأُوقف عليها الأوقاف الدارّة غير المنقطعة أثرياء المجتمع الإسلامي ولكي ندرك مدى الترابط الاجتماعي بين الغني والفقير في ذلك المجتمع ومدى متانة النظام الصحي والمؤسسي الذي وفّرت له الأوقاف كل ما احتاج إليه من مستلزمات وعقاقير ومختبرات وأطباء وغيرها علينا أن نعلم أنه في بغداد وحدها وُجد في سنة 1160م ما يزيد على ستين بيمارستانًا وفي قرطبة ما يربو على خمسين بيمارستانًا.
ولم يكن تأسيس المستشفيات أو البيمارستانات وقفًا على أهل الغنى والثراء وعلية القوم بل رأينا الأطباء أنفسهم يُساهمون بإنشاء المستشفيات دون انتظار ربح أو استثمار خاص فقد أشار الطبيب سنان بن ثابت على الخليفة العباسي المقتدر بالله بأن يتخذ بيمارستانا يُنسب إليه فأمر بإنشائه في منطقة باب الشام غرب بغداد وسمّاه البيمارستان المقتدري وكان ذلك الطبيب يُنفق عليه من ماله الخاص وأوقاف في كل شهر مئتي دينار.
بل إن بعض هؤلاء الأطباء رأى ضرورة التوسعة في كبريات المستشفيات للحاجة الماسة إلى مواجهة ازدياد أعداد المرضى وهذا ما فعله أحد أطباء دمشق بدر الدين بن قاضي بعلبك بجهوده الذاتية دون انتظار من الدولة في القرن السادس الهجري يقول ابن أبي أُصيبعة أشهر مؤرخي الطب والأطباء في الإسلام عن ذلك: ومما وجدته قد صنعه من الآثار الحسنة التي تبقى مدى الأيام ونال بها من المثوبة أوفر الأقسام أنه لم يزل مجتهدا حتى اشترى دورًا كثيرة ملاصقة للبيمارستان الكبير الذي أنشأه ووقفه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله وتعب في ذلك تعبا كثيرًا واجتهد بنفسه وماله حتى أضاف هذه الدور المشتراة إليه وجعلها من جملته وأكبرَ بها قاعات كانت صغيرة للمرضى وبناها أحسن البناء وشيّدها وجعل الماء فيها جاريًا فتكمّل بها البيمارستان وأحسن في فعله غاية الإحسان .
وبعض هذه الأوقاف اهتمت بالجوانب النفسية للمرضى دون العضوية منها فقد جاء في بعض الوثائق الوقفية على البيمارستانات تخصيص وقف لوظيفة يقوم بها اثنان من الرجال وكانت مهمتهما أن يقفا بالقرب من المريض الميئوس من شفائه ويسأل كلٌّ منهما الآخر عن حقيقة علّة ذلك المريض دون أن يلحظ أن ذلك جار بينهما عمدًا فيُجيبه رفيقه بصوت يسمعه المريض بأنه لا يُوجد في علّته ما يُشغل البال وأن الطبيب سيأمر بإخراجه من المستشفى بعد أيام لشفائه التام.
وقد أسهمت المرأة في الحضارة الإسلامية بالأوقاف في المجال الصحي والطبي فبعض الأميرات مثل ست الشام أخت صلاح الدين الأيوبي والأميرة جوهر نصيب بنت أحد سلاطين السلاجقة في الأناضول كانتا من أوائل الأميرات اللواتي أوقفن الأوقاف لإنشاء المستشفيات الطبية بأقسامها المختلفة كالجراحة والرمد والعظام وغيرها ولا تزال بعض أوقافهن ومستشفياتهن اللاتي أنشأنها في القرن الثالث عشر الميلادي باقية آثارها حتى يومنا هذا في بلاد الشام والأناضول.