جيل لن يتكرر..

  • PDF

جيل لن يتكرر..
*الشيخ عائض القرني
ذلكم الجيل هو جيله عليه الصلاة والسلام هو القرن الذي عاش فيه هم الملأ الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام يُعلّم ويُوجّه يسقي ويروي ما شاء لهذه الأنفس. إنني لن أتحدث اليوم عن البطولات ولا عن التضحيات ولا عن العلم ولا عن الأدب ولا عن الزهد لذلك الجيل سوف أتحدث عن جانب آخر عن طائفة المذنبين والعصاة في هذا الجيل ثم نقارن بيننا وبينهم على صعيد من الحق والعدل.
أشرقت شمس الرسالة على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان ويجلس الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد وأصحابه حوله يجلس كالقمر وسط النجوم في ظلام الليل يُعلّمهم ويُؤدبهم ويزكيهم وإن كانوا من قبل ذلك لفي ضلال مبين واكتمل المجلس بكبار الصحابة وسادات الأنصار وبالأولياء والعلماء وإذا بامرأة متحجبة تدخل باب المسجد فسكت عليه الصلاة والسلام وسكت أصحابه وأقبلت تمشي رُويداً حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام ثم وقفت أمامه وأخبرته أنها زنت وأنها تريد أن يُطهرها. فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل استشهد عليها الصحابة؟ هل قال لهم: اشهدوا عليها؟ هل فرح بذلك لأنها سلّمت نفسها؟ لا احمرّ وجهه حتى كاد يقطر دماً ثم حوّل وجهه إلى الميمنة وسكت كأنه لم يسمع شيئاً.
إنها امرأة مجيدة إنها امرأة بارّة إنها امرأة رسخ الإيمان في قلبها وفي جسمها حتى جرى في كل ذرة من ذرات هذا الجسد. هل كانت تظن أن التطهير عنده كلام يُعزرها به؟ أو سياط وينتهي الأمر؟ كلا إنها تعلم أن التطهير حجارة تتقاذف عليها تُقطع جسدها فتلحقها بالآخرة!! لا إله إلا الله ما أعظم هذه المرأة!! لقد ارتفع الإيمان عند أولئك العصاة إلى درجة لا يصل إليها أبرارُنا وأخيارنا هذا اليوم إن عُصاة ذلك المجتمع المثالي والجيل الراشد أعظم إيماناً من طائعينا وعُبّادنا وزُهادنا. فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟ حاول أن ترجع المرأة عن كلامها لم يُرِد أن يأخذها بكلمة صدرت عنها قد تكون غاضبة حينما قالتها وقد تكون هناك شبهة وهو الذي يُروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ادرءوا الحدود بالشبهات (ضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم [258] وعزاه السيوطي لابن عدي وابن السمعاني).
إنه يمنع التجسس والتصنت والاطلاع على عورات المؤمنين فهو الذي يقول منذرًا ومحذرًا طوائف معلومة: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته (أخرجه أبو داود [4 / 270] حديث رقم [4880] والترمذي ([4 / 331 332] حديث رقم [2032] وقال: حديث حسن غريب وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم [7984 7985]). أخبرته المرأة أنها حُبلى من الزنا فقال: اذهبي حتى تضعي طفلك ثم ارجعي فذهبتْ حتى وضعت طفلها ثم عادت إليه. 
قصة أخرى أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحَده أي أنها كانت تستعير أمتعة الناس وأموالهم. فاهتمت قريش بشأن هذه المرأة لأنها كانت من قبيلة ذات نسب وشرف فقالوا: من يُكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه فيها أسامة بن زيد فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حدّ من حدود الله؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله فلما كان العَشِيُّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم  فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمَر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها. 
قالت عائشة: فَحَسُنت توبتها بعد وتزوّجت وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخرجه البخاري [8 / 16] ومسلم [3 / 1315 1316] حديث رقم: [1688]). أيها الناس: ليس هناك حصانة لأحد في دين الله تبارك وتعالى تمنعه من أن يُعاقب إذا ارتكب ما يستحق عليه العقاب. 
إن دين الله تبارك وتعالى ليس مُفصلاً على حسب الأمزجة والأهواء ولا تدخله الشفاعات ولا الوساطات كما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: إذا بلغت الحدود السلطان لعن الله الشافع والمشفع (قال الهيثمي في المجمع :[6 / 262] رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه أبو غزية محمد بن موسى الأنصاري ضعفه أبو حاتم وغيره ووثقه الحاكم وعبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف). معنى ذلك أن الشرع لا بد وأن يُطبق على الكبير والصغير ولا بد أن تُقام الحدود على الشريف والوضيع.
لأنه إذا لم يُطبق الإسلام على الناس جميعاً فما فائدته إذن؟ وما الجديد الذي أتى به إذا لم يكن الناس كلهم سواسية أمام الشريعة الإلهية؟! وهذا رجلٌ آخر كان يشرب الخمر في عهده عليه الصلاة والسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتى به يوماً فأمر به فَجُلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فو الله ما علمت إنه يحبُّ الله ورسوله (أخرجه البخاري [8 /14]).
إنه مجتمع قد امتلأ بالحب لله ورسوله شاربهم يحمل الحب لله ورسوله ولا تمنعه معصيته من أن يُقدّم روحه رخيصة للواحد الأحد. 
إن العصاة في مجتمعنا نحن أيها المؤمنون ليسوا كما يتصورهم البعض أنهم انسلخوا من الدين أو أنهم خَلَعوا لا إله إلا الله أو أنهم لا يؤمل فيهم صلاح هذا ليس بصحيح فعندهم خيرٌ كثير وإني أعلم أناساً يجلسون في المقاهي والمنتديات وقد يسهرون الليالي ومع ذلك لو سمع أحدهم سبًّا للدين أو استهزاء بالرسول عليه الصلاة والسلام كان على استعداد أن يُقاتل ذلك المستهزئ وربما قدم دمه ونفسه دفاعًا عن الدين وعن عِرض محمد عليه الصلاة والسلام. فقصدي أن نستثير هذا الأصل في نفوس الناس وأن نُنمّي هذه الفطرة في قلوبهم حتى يزدادوا من الخير ويتركوا ما هم عليه من المعصية.