لا تغضب..

  • PDF


*الشيخ محمود بن أحمد الدوسري
إنَّ جِماعَ الشرِّ في الغضب وهو مصدر كلِّ بليّة كم مُزِّقت به من صِلات وقُطِّعت به من أرحام وتفكَّكَتْ بسببه شراكات وأُشعلت به عداوات وارتُكبت بسببه تصرفات وحماقات يندم عليها صاحِبُها ساعة لا ينفع الندم.
وحقيقة الغضب:
غليان في القلب وهيجان في المشاعر يسري في النفس فترى صاحِبَه مُحْمَرَّ الوجه تقدح في عينيه الشَّرَر فبَعْدَ أنْ كان هادئاً مُتَّزنا إذا به يتحوَّل إلى بُركان ثائر يقذف حُمَمَه في كلِّ اتِّجاه لذا جاءت وصية النبيِّ صلى الله عليه وسلم بترك الغضب فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْصِنِي قَالَ: لاَ تَغْضَبْ . فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لاَ تَغْضَبْ رواه البخاري.
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْف عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي بِكَلِمَات أَعِيشُ بِهِنَّ وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى قَالَ: اجْتَنِبِ الْغَضَبَ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: اجْتَنِبِ الْغَضَبَ صحيح - رواه أحمد. وفي رواية: قال رجلٌ: يا رسول الله! أوْصِنِي. قال: لا تَغْضَبْ . قال: فَفَكَّرْتُ حينَ قال رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قالَهُ فإذا الغَضَبُ يجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّه. صحيح - رواه أحمد.
إنَّ الغضبَ مِفتاحُ كلِّ شر. قيل لابن المبارك: اجمعْ لنا الخُلُقَ في كلمة قال: (تَرْكُ الغضب). لذا أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُق من الحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى والصَّفح والعفو وكظم الغيظ والطلاقة والبِشر ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة فإنَّ النفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق وصارت لها عادة أوجَبَ لها ذلك دفعَ الغضب عند حصول أسبابه. ولو اجتنب الناسُ الغضبَ وأسبابَه - عملاً بوصية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَمَا وقعوا في المحذور فكم من سجين بسبب غضب وكم من طلاق وَقَعَ بسبب غضب وكم من قطيعةِ رَحِم سببها الغضب وكم أُزْهِقَتْ أرواح ووقعت مصائب وكوارث بسبب الغضب!
فينبغي على المرء أنْ يُجاهِد نفسَه على ترك الغضب فإنَّ الغضبَ إذا مَلَكَ ابنَ آدمَ كان الآمِرَ والناهِيَ له وتأمَّل قولَه تعالى: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ ﴾ [الأعراف: 154] أي: لَمَّا سَكَنَ غضبُه وتراجعت نفسُه وعَرَفَ ما هو فيه اشتغل بأهمِّ الأشياء عنده فـأخذ الألواحَ التي ألقاها وهي ألواحٌ عظيمةُ المقدار. وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37] وقال سبحانه: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]. فمَنْ جاهَدَ نفسَه اندفَعَ عنه شرُّ الغَضَب.
ومِمَّا يدفع الغضبَ ويُسكِّنه:
التَّعوذُ بالله تعالى من الشيطان الرجيم فعن سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَد - رضي الله عنه - قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ - وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُون . رواه البخاري ومسلم.
والسُّكوتُ عِلاجٌ ناجِعٌ للغضب فعن ابْنِ عَبَّاس - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ – قالها ثلاثاً صحيح - رواه أحمد. لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه - من السِّباب وغيره - ما يندم عليه بعد زوال الغضب. قال مورِّقٌ العجلي - رحمه الله: (ما امتلأتُ غيظاً قطُّ ولا تكلَّمتُ في عضب قطُّ بما أندمُ عليه إذا رضيتُ).
وكَبْحُ الغضبِ يحتاج إلى جهاد وقوة وتَحَكُّم في الذَّات يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ رواه البخاري ومسلم. فالشديد القوي هو الذي يَصْرَع نفسَه إذا صارعته وغَضِب مَلَكَها وتَحَكَّم فيها فهذه هي القوة الحقيقة قوةٌ داخليةٌ معنوية يتغلب بها الإنسان على نفسِه وهواه ووساوس الشيطان. قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله: (قد أَفْلح مَنْ عُصِم من الهوى والغضب والطمع). والأفضلُ لِمَنْ كان غاضباً أنْ يجلس فإنْ ذَهَبَ عنه الغضب وإلاَّ فليضجع. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ صحيح - رواه أحمد.
ومِمَّا يُكافأ به مَنْ كَظَمَ غيظَه وغضبَه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ حسن - رواه أبو داود. وكَظْمُ الغيظِ والغضبِ فيه أجرٌ عظيم قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ جُرْعَة أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ صحيح - رواه ابن ماجه. قال ميمون بن مِهران: (جاء رجلٌ إلى سلمان فقال: يا أبا عبدِ الله! أوصني قال: لا تغضبْ قال: أمرتني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ قال: فإنْ غضبتَ فامْلِكْ لِسانَك ويَدَك).
ومن صِفات المؤمن:
أنه إذا ذُكِّرَ بالله عند الغضب تذكَّر وعاد إلى الحق ولم يتجاوزه. وإذا صدر منه قولاً أو فعلاً حال غضبه فَلْيَعُدْ إلى الصواب وإذا كان مُغضباً فوقع الخطأ منه تِجاه الآخرين فَلْيُبادِرْ إلى الاعتذار أو لِيَدْعُو لهم بظهر الغيب قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَد دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَة لَيْسَ لَهَا بِأَهْل أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رواه مسلم.
والتَّغافل من الأمور المُهمة في دفع الغَضَب وتفويتِ الفرصة على الشيطان عن محمَّد بن عبدالله الخزاعي قال: (سمعتُ عثمانَ بن زائدة يقولُ: العافيةُ عَشَرةُ أَجزاء تسعةٌ منها في التَّغافُل قال: فَحدَّثتُ به أحمدَ بنَ حنبل فقال: العافِيةُ عَشَرةُ أَجزاء كُلُّها في التَّغافُل).