استقبال رمضان بين اعتناء السلف وتسيّب بعض الخلف

  • PDF


وصايا ذهبية على أبواب خير الشهور
استقبال رمضان بين اعتناء السلف وتسيّب بعض الخلف
بعد أيام - إن شاء الله تعالى - يحل علينا شهر رمضان المبارك شهر الصيام والقيام والعتق من النار شهر القوة الإيمانية والسلامة البدنية شهر الجود والبذل شهر التزاور والتسامح شهر التصالح مع الله والرجوع إلى الله والتجاوز عن عباد الله شهر ترفع فيه الأيدي بالدعوات وتجأر فيه الألسن بطلب غفران السيئات شهر تفضل فيه الباري - جل شأنه - بفتح أبواب الجنان وتغليق أبواب النيران وتصفيد مردة الشياطين وهيأ فيه الأسباب للسمو بأرواح المؤمنين وتطهير نفوس المخبتين شهر يفطن فيه المقصرون فيتداركون ما فات من تهاون طوته السنون ويستفيق فيه المعتدون فيقلعون عما كانوا يجترحون.
عجبا للفرق الشاسع ما بين استقبال السلف لرمضان وما بين استقباله من طرف بعض الخلف.
لقد كان السلف يفرحون بقدومه ويحمدون الله على إدراكه كيف لا وهو ركن ركين يقوم عليه صرح الدين. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وان محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت متفق عليه.
فأعظِمْ بها من بشارة يزفها النبي - صلى الله عليه وسلم - لصحابته حين قال لهم: أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله - عز وجل - عليكم صيامه تُفتَح فيه أبواب السماء وتُغلَق فيه أبواب الجحيم وتُغَلُّ فيه مَرَدة الشياطين لله فيه ليلة هي خير من ألف شهر من حُرِمَ خيرها فقد حرم صحيح سنن النسائي.
قال ابن رجب - رحمه الله -: كيف لا يُبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يُغَلُّ فيه الشيطان من أين يشبه هذا الزمانَ زمان؟ .
فانظر إلى حال السلف في استقبالهم لرمضان كيف كانوا يفرحون بقدومه ويبتهجون بحلوله؟
قال مُعَلَّى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم .
وكان يحيى بن أبي كثير يقول: اللهم سلمنا إلى رمضان وسلم لنا رمضان وتسلمه منا متقبلا .
وقال ابن رجب: [ بلوغُ شهر رمضان وصيامُه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استُشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فَرُئِي في النوم سابقا لهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاةً وأدرك رمضان فصامه فو الذي نفسي بيده إن بينهما لأبعدَ مما بين السماء والأرض ] صحيح سنن ابن ماجة.
أليس رمضان - إذا - نعمة جليلة تستوجب الشكر؟
قال النووي - رحمه الله -: اعلم أنه يستحب لمن تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة أن يسجد شكرا لله تعالى وأن يحمد الله تعالى أو يُثني عليه بما هو أهله الأذكار.
كان لهم رمضان مدرسة لتعويد النفس على صيام النوافل الإضافية لأنهم سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا متفق عليه.
وكان لهم رمضان مدرسة لتعويد النفس على القيام لما يجلبه من نور في الوجه وحب يلقى في قلوب العباد.
قال سعيد بن المسيب - رحمه الله -: إن الرجل ليصلي بالليل فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحبُ هذا الرجل .
وقيل للحسن البصري - رحمه الله -: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره .
كانوا يعتبرون رمضان مدرسة للقرآن تلاوة واستماعا وفهما وتدبرا وعملا.
فقد كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع الأعمال وأقبل على قراءة القرآن.
وكان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة.
وكان رمضان لهم مدرسة لإذابة الشح من النفوس والمسارعة إلى الجود والعطاء. عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة متفق عليه. وعند أحمد زاد: لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه .
قال الإمام الذهبي: وبلغنا أن حماد بن أبي سليمان كان ذا دنيا متسعة وأنه كان يُفطِّر في شهر رمضان خمس مائة إنسان وأنه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم .
تَعَوَّدَ بسط الكف حتى لوَ اَنه 
ثناها لِقَبْض لم تجبه أنامله 
تراه إذا ما جئته متهللا 
كأنك تعطيه الذي أنت سائله 
هو البحر من أي النواحي أتيته 
فلجته المعروف و الجود ساحله 
فرمضان السلف - إذا - تنافس في الخيرات وتزاحم في القيام بالطاعات ومضمار للفوز بالجنات.
  
قال الحسن البصري - رحمه الله -: إن الله جعل رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا. فالعجبُ من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون