لا تحزن إنّ الله معنا .. في غار ثور

  • PDF

لا تحزن إنّ الله معنا .. في غار ثور

*الشيخ راغب السرجاني
ماذا فعل أهل قريش عندما اكتشفوا خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة؟
لقد أُعْلِنت حالة الطوارئ القصوى في مكة وقاموا باستنفار عامّ لكلِّ العناصر المشركة واتَّخذت السلطة في مكة عدَّة قرارات!
كان القرار الأول: هو الذهاب إلى منزل أبي بكر الصديق صلى الله عليه وسلم والمتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتولَّى شئون الإنفاق على المسلمين فمن المحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال مختبئًا في بيته أو لعلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر بمفرده وأبو بكر صلى الله عليه وسلم يعرف طريقه فلا بُدَّ من التأكُّد من ذلك وقد قام بهذه المهمَّة أبو جهل بنفسه ومعه فرقة من المشركين.
قَالَتْ أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْر رضي الله عنه أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْش فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَام فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْر فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْر ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ أَدْرِي وَاللهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْل يَدَهُ وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي
ولم يُفَكِّر أبو جهل في اقتحام بيت الصديق رضي الله عنه لأنهم كانوا يخافون من تعيير العرب لهم إذا دخلوا على النساء بيوتهنَّ ولو كانت النساء على غير دينهم.
أمَّا القرار الثاني: فكان إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة فلعلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال مختبئًا في أحد البيوت في مكة.
وكان القرار الثالث: هو إعلان جائزة كبرى لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو بصاحبه الصديق رضي الله عنه وتُعطى الجائزة لمن يأتي بأحدهما حيًّا أو ميِّتًا والجائزة هي مائة ناقة وهذا رقم هائل في ذلك الزمن.
وأمَّا القرار الرابع والأخير: فكان استخدام قصاصي الأثر لمحاولة تتبُّع آثار الأقدام في كل الطرق الخارجة من مكة.
الرسول الكريم وأبو بكر في غار ثور
كان هذا هو ردُّ فعل المشركين لصدمة نجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من محاولة القتل فماذا كانت النتيجة؟
مع كل طرق التأمين التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه ومع كون الخُطَّة بارعة جدًّا ومحكمة للغاية فإنه كما ذكرنا من قبلُ: ليس من طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حدِّ الكمال فلا بُدَّ من ثغرات لذا فقد اكتشف القصَّاصون المشركون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي به غار ثور وصعدوا الجبل بل ووصلوا إلى باب غار ثور! ولم يَبْقَ إلا أن ينظروا فقط داخل الغار وكان الغار صغيرًا جدًّا!
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس داخل الغار في سكينه تامَّة بينما كان الصديق رضي الله عنه في أشدِّ حالات قلقه وحزنه!
يحكي أبو بكر رضي الله عنه تفاصيل هذا الموقف فيقول: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْر بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟
وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الغَارِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ القَوْمِ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا قَالَ: اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْر اثْنَانِ اللهُ ثَالِثُهُمَا
كان هذا هو الوضع داخل الغار فماذا عن خارجه؟!
لقد قطع المشركون طريقًا طويلاً صعبًا حتى يصلوا إلى هذه النقطة وها هم يَرَوْن أن آثار الأقدام قد انتهت أمام فتحة باب الغار فماذا يُتوقَّع منهم الآن؟!
إن المتَوَقَّع الذي لا ريب فيه هو النظر داخل الغار لرؤية مَنْ بداخله وكم ستأخذ منهم هذه النظرة؟ إنها دقيقة واحدة وربما ثوان معدودات ولا شكَّ أنهم قد أخذوا ساعات طويلة حتى يصلوا إلى هذا المكان فلماذا لا يُطأطئ أحدهم رأسه لينظر نظرة سريعة داخل الغار؟ هذا هو المتوقَّع لكنه لم يحدث!
إن الله تعالى ألقى في روعهم ألا ينظروا!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِّطَ عَلَيْهِمْ فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالغَارِ فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَا هُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ. فَمَكَثَ فِيهِ ثَلاَثَ لَيَال .
وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا من كل طرقه فإن كثرة طرقه يُقَوِّي بعضها بعضًا فترفعه إلى درجة الحديث الحسنِ أمَّا قصَّة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار فهي قصص ضعيفة جدًّا لا تصحُّ
وأنا أرى أنه حتى لو لم تصحَّ قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز -أيضًا- من ربِّ العالمين إذ كيف لا ينظر الناس داخل الغار مع كونه مفتوحًا؟! فسواء نسجت العنكبوت خيوطها أو لم تنسج فهذا دفاع من ربِّ العالمين والنتيجة واحدة: نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه من هذه المطاردة المكثفة وتبقى الحقيقة التي لا جدال فيها وهي أنَّ الله يفعل ما يُريد!
مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقرَّرًا في الخطَّة المرسومة وحان وقت الرحيل إلى المدينة وجاء الدليل عبد الله بن أريقط بالناقتين في الوقت المتفق عليه وجاء بناقة ثالثة له وجاء معه -أيضًا- عامر بن فهيرة رضي الله عنه ليُرافق الركب المهاجر إلى المدينة.