كيف نتصرف في مواجهة فتن كقطع الليل ؟

  • PDF


أحاديث الفتن والفقه المطلوب
كيف نتصرف في مواجهة فتن كقطع الليل ؟


مأمون فريز


إننا نجد من النبي - صلى الله عليه وسلم - حـرصـاً على أن يظل المسلم بعيداً عن الفتن لا يشارك فيها بسيف بل ينأى عنها إن استطاع فهو يوصي المسلم أن يتلف ما كان بين يديه من وسائل الفتن بكسر السيف أو دق حده بحجر لكيلا يستخدمه أحد في الفـتنة وكـسـر الـقـسـي وتقـطـيع الأوتار.
ولننظر في هذا الحديث الذي يرويه أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها سـتـكـون فـتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي والماشي فـيـها خـيـر مـن الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينجو إن استطاع النجا. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفـيـن أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقـتـلنـي؟ قـال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار).


كقطع الليل المظلم..
ويروي أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كــافــراً الـقـاعـد فـيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابنيّ آدم).
وبيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلم ما يفعله عند وقوع الفتن وهو الإكثار من العبادة وذلك في قوله:(العبادة في الهرج كهجرة إليّ).
ولم يقتصر تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتن على توجيهات تكف المـسـلـم عن المشاركة فيها بالسيف أو على الفرار منها بل نجد إلى جانب ذلك تحذيراً من دعاة الفتنة الذين يدعون الناس إلى النار ونجد بياناً بصفاتهم حتى يحذرهم المسلم وأمـــراً نبوياً لطريق التعامل معهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون فـتـن على أبوابها دعــــــاة إلى الـنـــار فأن تموت وأنت عاض على جذع شجرة خير لك من أن تتّبع أحداً منهم).
وجاء في حديث آخر عن حذيفة فيه شيء من التفضيل عن هؤلاء الدعاة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يكون دعاة على أبواب جهنّم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم قوم من جلدتنا يتكلمّون بألسنتنا. قلت فما تأمرني أن أدركني ذلك؟ قال فألزم جماعة المسلمين وإمامهم فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك).
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين ما سيطرأ عليهم من الفتن من خارج مجتمعهم وما سيكون بينهم وبين أعدائهم من الملاحم فحدثهم عن الدّجال وفتنته ونصر اليهود له وأن منهم سبعين ألفاً من يهود أصبهان وبيّن لهم من أين سيخرج وأين سيبلغ من الأرض وما الذي يفتن الناس به وما الذي يعصم منه... كل ذلك في تفصيل دقيق عجيب يدل على مدى حرص النبي -عليه الصلاة والسلام- على تأمين السلامة للمؤمنين في عصره وفي العصور التالية إلى يوم القيامة.
وسأورد لمحات منها ومن شاء التفصيل فليرجع إلى مواطنها.


اثبتوا..
لقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكان خروج الدجال فقال: (إنه خارج خلّة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً يا عباد الله فاثبتوا).
ولنقف عند هذا النداء النبوي الكريم الذي يخترق القرون ليبلغ أسماع مؤمني ذلك العصر يدعوهم إلى الثبات ويدلّهم على ما يعصمهم من الدجّال بقوله: (فمن رآه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف).
ويبطل لهم بنصائحه سحر الدجّال الذي يخيّل إليهم الأشياء على غير حقيقتها فيقول: (لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والأخر رأي العين نار تأجج فإما أدركنّ أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمضّ ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد وإن الدجّال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه: كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب).
إني لم أرد فيما أوردت من أحاديث الفتن أن أستقصي أو أن أستوعب وإنما هي شذرات منها أردت أن أستثير بها همم القادرين من أهل العلم إلى الكتابة في فقه أحاديث الفتن وتقديم دراسات تستخلص ما فيها من الدروس التي تناسب عصرنا.
لقد ألفّ كثير من العلماء عبر العصور في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة ولكنّ مجال فقهها ما يزال باباً مفتوحاً لكل من أوتي فهماً في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبصيرة في أحداث التاريخ والواقع. لقد ربط ابن كثير في البداية والنهاية بين أحاديث الفتن ولكنه وقف في ذلك على عصره وبقيت العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبوءات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولعل قائلاً يقول: أي فائدة ترجى من هذا العلم ونحن في عصر التخطيط والتنظيم الدقيق؟ أليس البحث في هذا نوعاً من الهروب من الواقع أو الاستنامة على نبوءات الله أعلم بها متى تقع؟
وأقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل تلك الأحاديث عبثاً ولم يلحّ في الحديث عن الفتن لتسوّد بها صفحات من كتب الحديث أو لتفرد في مؤلفات تقرأ للبركة وتبيّن صدق نبوته -عليه الصلاة والسلام- فحسب.
وإنما قالها ليفقهها عنه المسلمون المعنيون بها في كل عصر من العصور أنها جزء من الرسالة التي حمّلها وأشهد عليها بقوله (ألا هل بلغت) والمطلوب من المسلمين فهمها كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تفهم والعمل بالوصايا التي ضمّنها إياها.
إن كثيراً من الأحاديث إنما هي أشبه بالرؤيا! ولا يفقه الرؤيا على حقيقتها إلا من آتاه الله علم تأويل الأحاديث وهذا الصنف هو المرشّح لدراسة هذه الأحاديث وفقه ما فيها وبث هذا الفقه بين المسلمين لتؤتي ثمارها الطيبة بينهم ويعرفوا مواطئ أقدامها فيعرف المسلم متى يعتزل الناس ويتبع بغنمه شعب الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن.
وعلينا أن نذكر أنه إذا كان بعض المسلمين ينعمون بدينهم ولا يحول بينهم وبينه حائل فكم من المسلمين في الأرض رفعت بينهم وبينه السدود وحالت بينهم وبينه القيود فأين فقه أحاديث الفتن الذي يستنيرون به؟.
إن البحث في فقه أحاديث الفتن وأشراط الساعة لا يخص الفرد المسلم وحده بل يمتد إلى الجماعات العاملة للإسلام لتنظر في ضوئه في غاياتها ووسائلها وأي عمل إسلامي لا يستنير بفقه أحاديث الفتن يظل في رأيي غائم الوجهة والأساليب.


ضرورة..
بل إن فقه أحاديث الفتن ضروري للدولة التي تلتزم بالإسلام. كذلك نحن بحاجة إلى مراجعة واعية للأحاديث التي ذكرت كثرة الروم (أي النصارى) في آخر الزمان وقتال المسلمين لهم ومواضع هذا القتال ثم فتح القسطنطينية ورومية ونصر اليهود للدجّال وقتل المسيح ابن مريم -عليه السلام- له في باب اللدّ في فلسطين ولنضع ذلك بين أيدي العاملين للإسلام أفراداً وجماعات ودولاً!
إن البحث في هذه الأحاديث وفقهها ليس من نافلة القول أو العمل وليس من باب الترف العلمي أو الخدر العقلي بل هو جزء من التخطيط والتفكير والتدبير المستهدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وللنظر في تلك التفصيلات الجزئية التي وردت في بعض الأحاديث وما فيها من التوجيهات النبوية لتفادي آثار بعض الفتن. مما سبق ذكره ومما هو مفصل في كتب الصحاح.. ولننظر بعد ذلك في شأننا هل نوكل إلى نفوسنا وتخطيط عقولنا أم نستهدي بما صحّ من أحاديث الفتن؟!
فهل نجد من أهل العلم والفقه في الحديث النبوي والتاريخ وفقه الواقع المعاصر والتبصر فيه من يتصدى لهذا العمل ويضعه بين أيدي المسلمين ليكون هداية لهم.. وليعرفوا مدى حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وحرصه على نجاتهم من الفتن.. ويجدوا وهم يقرؤون ذلك تفسيراً عملياً لقول الله -عز وجل- في وصف نبيه -عليه الصلاة والسلام-: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) [ التوبة:128].