دستور الوداع.. الرسالة الكبرى

  • PDF

معجزة النبي الكريم لأمة الإسلام والإنسانية
دستور الوداع.. الرسالة الكبرى
لم تتوقف معجزات خطبة الودع على ما أرساه النبي صلى الله عليه وسلم من مبادئ كونية تهيئ الخير للعاملين بهذا الدستور النبوي قبل رحيله ولكنها امتدت إلى ما هو أبعد من حيث البلاغة والإعجاز بعدما لخص النبي صلى الله عليه وسلم قواعد الشريعة السمحاء في كلمات موجزة دلت على أصحاب الحقوق وعرفت بها ونظمت ما يحفظ ويصون الإنسان باعتباره إنسانا لتجد في بلاغة النبي ضالة كل ما يبحث عنه هذا الإنسان سواء كان ذكرا أم أنثى شيوخا أم أطفالا حكاما أم محكومين.
حجة واحدة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم لخص في خطبتها دلائل القدرة الإلهية في تعليم نبيه ليثبت للعالم: وما ينطق عن الهوى فقد حج النبي حجة واحدة طوال حياته هي الحجة المعروفة تاريخيا بحجة الوداع قبل وفاته بعام واحد قام فيها الرسول بالشعائر المقدسة سنة 10هـ وتوفى - صلى الله عليه و سلم – بعدها بعدة شهور حيث انتقل لربه فى ربيع الأول سنة 11هـ وكأنه في هذه الخطبة يودع الإنسان بكشف كل ما يضعه على طريق سعادته في الدارين الدنيا والأخرة.
كما امتدت خطبة الوداع التي شهدت حضور أكبر تجمع إسلامي في العهد النبوي بنحو 125 ألفاً من الصحابة وكانت قبل وفاة النبي بنحو شهرين أعلن فيها بصورة أخيرة ونهائية كل الأشياء التي بعث من أجلها وتعتبر نبراساً للأمة في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
فقد وأتم النبي صلى الله عليه وسلم رسالته إلى أمته وترك فيهم ما لا يضلهم وأتم ما أمره به ربه أن يبلغه إلى الناس أجمعين فودع النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان بكل تفاصيله أحسن مايكون من الوداع الذي يليق به صلى الله عليه وسلم.
*خطة شاملة للإصلاح
في خطبة الوداع أرسى النبي دعائم ومخططات أي إنسان يبتغي صلاح شأنه ورعيته وثبت دعائم نهضة الأمة من خلال إصلاح الفرد والمجتمع فحدد النبي قبل رحيله إلى جوار ربه المرجعية الثى يرتكن إليها المسلمون عندما قال : تركت فيكم ما اعتصمتهم به فلن تضلوا بعدى أبدا كتاب الله وسنتى تلك المرجعية الثى لا ضلال ولا شقاء معها تضمن تحقيق الأمن والأمان لكل الناس والعدل والمساواة حتى لغير المؤمنين بها والفلاح والفوز في الآخرة.
ووضع النبي عشر قواعد يمكن بناء المجتمع الإسلامي على أساسها وكل ما فيها يؤسس لمختلف مجالات العلوم الحديثة وتضمنت أسس بناء المجتمع وهو أساس صريح لمنع التمييز العنصري في جميع أشكاله وهي الظاهرة الثى سيطرت على المجتمع في زمانه ولا زالت تسيطر على كثير من المجتمعات حتى الآن.
فتبنت الخطبة الأساس الصريح لعدم الظلم بين الناس ومنعه بكل أشكاله حماية للمجتمع والناس وإن دماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب وهو إبطال صريح لأحد أسوأ عادات الجاهلية وهو الثأر وذلك لتحقيق السلامة والأمن للمجتمع.
كما أرسى قواعد المعاملات المالية بقوله صلى الله عليه وسلم: وإن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا وإن أول ما أبدأ به ربا العباس بن عبدالمطلب وهو إبطال للعادات الضارة بالأنفس والأموال وإسقاط للربا للحفاظ على أموال الناس.
وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم الثورة على استباحة الدماء والتعدي على الإنسان إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة .
*المرأة في خطبة الوداع
لم يحفظ نص دستوري أو قانون أو مبدأ حق المرأة كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته فقال: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
وتابع النبي: تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تُسألون عـني فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأدَّيت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات.
جمل قصيرة تجمع معاني عظيمة خصها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام العظيم في أيامه الأخيرة عليه الصلاة والسلام تجلِّي منهج الإسلام العظيم فهذا المشهد المهيب الذي لم يجتمع في الإسلام جمع مثله وفي أيام الحج المباركة تأتي هذه الكلمات النبوية مؤكدة على هذا المعاني العظيمة:
1- حرمة الدماء والأموال والأعراض مع التشديد في هذه الحرمة وهو من الأحكام التي قد لا تخفى على المسلمين لكن التأكيد عليها بمثل هذه الطريقة هو تعظيم لهذه الدماء وسدٌّ للذرائع أمام التأولات الفاسدة في انتهاكها وهو ما يوجب على المسلمين أن يجتهدوا في بذل الأسباب التي تصون هذه الحقوق من أي تجاوز.
2- النهي عن عادات الجاهلية الذميمة وقد عبَّر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بتجنب كل أمر من أمورها فقد أبدلهم الله بها الإسلامَ عقيدة وأخلاقاً وشريعة فلا يقدَّم عليه أي شيء آخر وهو ما يوجب على المسلمين ضرورة التمسك بقيم الإسلام والاستعلاء على أي قيم أخرى تنافيه. ومن عادات الجاهلية الثأر للدماء وإثارة الفتن انتقاماً لها وهو ما يغذي في النفوس الاختلاف والتفرق والشتات مما ينافي ما جاء به الإسلام من رحمة وجمع للكلمة وتأليف للقلوب فكان من عظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أن أسقط كل هذه الثارات الجاهلية فلم يبقَ إلا الاحتكام إلى الشرع والخضوع لقضاء الإسلام فلا تؤخذ الحقوق غلاباً ولا تزر وازرة وزر أخرى بل يؤخذ الجاني وتحفظ الحقوق وتصان الدماء.
3- إبطال الربا وهو من عادات الجاهلية القائمة على الظلم واستغلال الفقير والمحتاج وإبطالُ مثل هذه المعاملة القائمة على الجشع والاستغلال هو تعزيز للقرض الحسن والرفق بالمحتاجين والإنظار للمعسرين ونحو هذه القيم المثالية التي يتميز بها نظام الإسلام في المعاملات المالية.
4- تعظيم العدل ومن أعظم صوره هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بدأ بنفسه والأقربين فأول دم أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم هو دم ابن عمه وأول ربا أسقطه هو ربا عمه فهو أنموذج عملي لعظمة هذه الرسالة أن قائدها هو أول من يمتثل لقيمها العظيمة وقد سار على ذلك صحابته الميامين فكانت الخلافة الراشدة أنموذجاً بديعاً من تطبيق أحكام الإسلام والتزام قادته بأن يحافظوا على هذه الأحكام في أنفسهم أكثر من غيرهم.
5- التأكيد على حقوق النساء وهذا التأكيد يوجب مزيد احتياط في مراعاة حقوق النساء فما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام إلا لأهميته.
6- بيان حقوق الأزواج والزوجات فالأسرة هي بناء المجتمع المسلم لا يتأسس المجتمع المسلم إلا من خلاله فجاءت هذه الأحكام المفصلة لبيان شرف الأسرة.
7- الالتزام بكتاب الله وشدة التمسك به.
8- كمال الرسالة فقد أدى الرسالة وأشهد الأمة على ذلك فالواجب على المسلمين أن يحافظوا عليها نقلاً وحفظاً ورواية ودراية وأن يحفظوها من أي تحريف. والشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأداء الرسالة لا تتم إلا بالتسليم لسنته عليه الصلاة والسلام لأنها المبيِّنة للقرآن والمفصلة لأحكامه والشاهدة على حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على البلاغ والنصح لهذه الأمة وتعليمها كل ما تحتاج من أمر دينها.