المشركون يحاصرون بيت النبي صلى الله عليه وسلم

  • PDF

المشركون يحاصرون بيت النبي صلى الله عليه وسلم
*الشيخ راغب السرجاني
بعد أن كسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه صنم قريش ذهبا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرَّف الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه بالودائع وأصحابها ونام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم وهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج قبل أن تأتي قريش ولكن كانت المفاجأة! لقد قَدِمَ أهل مكة مبكِّرين وحاصروا البيت النبوي وصرنا على أبواب أزمة كبيرة!
لقد استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم الوُسع في الخُطَّة هو والصديق رضي الله عنه ولكن الطابع المميِّز لخُطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال فلا بُدَّ من ثغرات في الخُطط البشرية لكن إذا كان المرء مستنفدًا وسعه الحقيقي فإن الله تعالى يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته ويُكْمِل العجز البشري بقُدرته أما إذا لم يأخذ المرء بكل الأسباب الممكنة فإن الله عز وجل لا يسدُّ هذه الثغرات ولا يُكمل هذا العجز فهذا لا يكون توكُّلاً على الله بل تواكلاً وشتَّان بين التوكُّل والتواكل!
*خروج النبي بمعجزة إلهية
ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الحرج وعشرات السيوف تُحيط بالبيت والقرار ليس الحبس والمحاكمة بل لقد صدر الحكم فعلاً بالقتل وهُمْ قد جاءوا للتنفيذ فماذا يفعل في هذا الموقف العصيب؟!
قَالَ ابن إسحاق: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَاد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْب الْقُرَظِيِّ قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَام فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الأُرْدُنِّ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا. قَالَ: وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَاب فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ أَنْتَ أَحَدُهُمْ . وَأَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلاَ يَرَوْنَهُ فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ يس:
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 1-9] حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلاَّ وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ.
فَأَتَاهُمْ آت مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهُنَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدًا. قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللهُ! قَدْ وَاللهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلاً إلاَّ وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ قَالَ: فَوَضَعَ كُلُّ رَجُل مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ: وَاللهِ إنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا عَلَيْهِ بُرْدُهُ. فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا فَقَامَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنِ الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الَّذِي حَدَّثَنَا .
لقد نزل الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطَمْئِنه ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولا وجل فسوف يأخذ الله تعالى بأبصارهم! وبالفعل خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة ليلة السابع والعشرين من صفر من السنة الرابعة عشر من النبوة وهو يقرأ صدر سورة يس من أولها إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} يس: 9.
*غار ثور
وإمعانًا في السخرية من المشركين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب ووضع جزءًا منها على رأس كل مشرك يُحاصر بيته وهم لا يشعرون ثُمَّ انطلق بسرعة إلى غار ثور!
كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين لكن الله سبحانه أراد ذلك لإثبات أن الأمر كلَّه بيده عز وجل وأنه دون توفيقه تعالى لا يتمُّ أمر من الأمور وأيضًا ظهرت المعجزة البيِّنَة في نُصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الناحية الأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله تعالى أبصار المشركين فلا يقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ أذى طَوَال حياته ولكن هذا لم يحدث فقد أُلقي على ظهره سلا الجزور ورَحِم الشاة وسُبَّ بأفظع الألفاظ ورُجِمَ بالحجارة في الطائف وسيُصاب في غزوة أحد أكثر من إصابة.
إن الله لم يأخذ بأبصار المشركين في كل هذه المواقف ليُعَلِّم المسلمين طبيعة الطريق فطريق الإيمان فيه كثير من الإيذاء ولكنه على الناحية الأخرى فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين وأعداء الله تعالى ويكفينا في ذلك ما كان يقرؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من بيته والمشركون يُحاصرونه: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}يس: 9.
وليست هذه الحماية الربانية خاصة بالأنبياء فقط ولكنها تحدث كذلك مع كل المؤمنين نَعَمْ يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء لكن قد يفعله الله عز وجل مع المؤمنين دون أن يُطلع الناس عليه فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم في مواقف عدَّة.
وخلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله تعالى والله سبحانه يكتب أحيانًا ابتلاءً للمؤمن وفي ذلك حكمة وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا ولا تسير الأمور إلا بقدر الله سبحانه قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر } [القمر: 49].