عبادة الصالحين في الشتاء..

  • PDF

دأب الصحابة والسلف الصالح
عبادة الصالحين في الشتاء..
من المعلوم أن سلف الأمة كانوا يسابقون الساعات بل اللحظات ويستغلونها استغلالا جيدا بالأعمال الصالحة ولا يحبون أن يذهب شيء من أوقاتهم هدرا. وقال الحسن: أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ حرصًا منكم على ديناركم ودرهمكم .
ومن عادة الشتاء أنه يصحبه الدعة والكسل والخمول ويثبط كثيرا من الناس عن أداء العبادات على وجهها ربما يقعد بعضهم عن الطاعات الواجبة وتضييع الفرائض بحجة البرودة ولكن الصالحين على عكس ذلك بل من تمام حرصهم على الخير: حبهم لفصل الشتاء وفرحهم بقدومه واتخذوه فرصة وميدانا في كسب الوقت واغتنامه بالعبادات والقربات حيث تراهم في لياليه قائمين راكعين ساجدين تالين للكتاب العزيز وصائمين بنهاره. 
ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام وعن الحسن قال: نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه .
ولهذا سمى أبو هريرة الصوم فيه بـــــ الغنيمة الباردة وكان رضي الله عنه يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى فيقول: الصيام في الشتاء ومعنى كونها غنيمة باردة كما قال الحافظ ابن رجب: إنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة .
حتى لو اكتفى المرء بصيام الأيام الفاضلة مثل الاثنين والخميس أو الأيام البيض وغير ذلك فيكون قد نال خيرا عظيما. ومن أجل قيام الليل في الشتاء بكى معاذ عند موته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .
وكذا عامر بن عبد الله لما حضر جعل يبكي فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليالي الشتاء .
وقال معضد: لولا ثلاث: ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ولذاذة التهجد بكتاب الله ما باليت أن أكون يعسوباً وكان صفوان بن سليم وغيره من العباد يصلون في الشتاء بالليل في ثوب واحد ليمنعهم البرد من النوم ومنهم من كان إذا نعس ألقى نفسه في الماء ويقول: هذا أهون من صديد جهنم.
وكانوا ينصحون بعضهم بعضا بالحرص والجد على استثمار فرص فصل الشتاء للقيام وقراءة القرآن والصيام. وجاء عن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا وقصر النهار لصيامكم فصوموا وكان عطاء الخرساني ينادي أصحابه بالليل يا فلان ويا فلان ويا فلان قوموا فتوضئوا وصلوا فقيام هذا الليل وصيام هذا النهار أهون من شرب الصديد ومقطعات الحديد غدا في النار.
وقال أبو داود للإمام أحمد عن عبد الله بن المبارك أنه يقول: إذا كان الشتاء فاختم في أول الليل وإذا كان الصيف فاختمه في أول النهار فرأيت كأنه أعجبه .
ولقد نظر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى دأب الصالحين في فصل الشتاء وفطامهم عن الشهوات الشتوية وشمرهم فيها بأنواع الطاعات ومن هنا يحق له أن قال: الشتاء غنيمة العابدين .
* الغنيمة الكبرى
ويوضح ابن رجب معنى الشتاء غنيمة فيقول: لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام .
فالحاصل أن الشتاء غنيمة غالية لكل من فقه وفطن لحقيقة ذلك كما فطن لها سلف الأمة.