الأشباح تحطم كل شيء

  • PDF


بقلم: الكاتب هادي المياح ـ الـعراق


استتر خلف بناية متروكة بعد أن ادّى دَوره كما كان مقرراً له بتجاوزه على النصب الشهير وسط التقاطع بكل جرأة وثبات.. في البداية حدث هذا من أجل الوطن والحياة الآمنة.. ولم يكن يكلفه غير فردة حذاء علقَتْ في رأس التمثال لكنه لم يلحق ان يعثر عليها. فقد أخافه هدير محرك دبابة في الشارع المجاور. 
عدّل من جلسته واطلق ساقه اليسرى التي طواها تحته بقصد ان يخفي قدمه الحافية.. فكر: عليه أن يركز ويتجنب العيون ويحاول إخفاء وجهه قبل أن يُخفي حذائه فما يزال خطر وجود العيون موجودا وصور الرجل المعلقة أينما نظر لا يمكن ان يطيقها. 
مهما يكن فسوف يسجل التاريخ لي ذلك ويظهرون صوري في ناصية كل شارع وربما ينحتون لي تمثالا لا يقل ارتفاعه عن اثنتي عشر مترا. لكن ما فعلتهُ أمام الجميع تلقفته أنوف المخابرات قبل أذانها ذلك أنها تنتشر في كل مكان. 
شعر بالعطش وبلع ريقه فقد أنهكه ما جرى..تخلّى عنه كل مرافقيه بعد الواجب مباشرة..ولم تصله منهم أي معلومة.. لكنّه لاحظ أن كل شيء أصبح هادئاً بعد مرور دقائق فقط على الحادث..دقائق وتوقف هياج وحماس الثوار وكل شيء.
داخَلهُ اليأس.. وشرع يجر نفسه باتجاه النّهر مستغلاً عدم وجود أعين للمراقبة هناك.
همس مع نفسه: طالما أن الموقف مبهم ما عليّ إلا الهروب إلى جهة بعيدة عن الأنظار.. ولا بأس أن أسبح وليأخذني التيار أينما يشاء.
تذكّر هروبه من الخدمة المرة الأولى بعمل ثغرة في أسلاك المعسكر الشائكة.. زحف خلالها صوب الأهوار متخفياً بالقصب والبردي. لم يكن الأمر يسيرا حينذاك. 
لكنّه حينما مرّ بالقرب من النهر هبط الجرف بسرعة عابرا درجاته حتى الدرجة الأخيرة. ووقف يتأمل جريان الماء ثم رمى فردة حذائه وراح يراقبها حتى اختفت.. في نفسه تمنى لو أن ذلك الرجل أيضاً يختفي من رأسه وبذلك تنتهي همومه إلى الأبد.
ارتقى الدرجات صعوداً إلى الحافة العليا فقد سمع إطلاقات وأهازيج لكنه لم يستطع أن يخمن مصدرها! هل هي احتفاء بإلقاء القبض على الرجل المارد أم بعودته؟ 
ترك رأسه يخرج من بين العشب ليدقق بالنقاط المعتمة وما حولها خشية ظهور عجلات أو أفرادمجهولين..شعر بالهواء الثقيل المشبع بالرطوبة ينفذ إلى جسمه..عاد بذاكرته إلى هواء الأهوار ورائحة الأسماك النافقة.. كان يمزق بطانات جيوب بدلته ليصنع منها كِمامات واقية. 
 لقد كانت الروائح تتناوب على أنفه لتصنع منه حقلاً لتجارب الشم.. غاب في تلك الأجواء حتى نهاية الحرب وكلما مرت بذهنه مفردة الوطن طردها هي وحروفها.. وفضّل الاختباء بالأهوار على الموت في أي جبهة من الجبهات..تذكر كل معاناته من خوف ورعب حوّله في نهاية الأمر إلى ما يشبه واحد من قُطَّاع الطرق. 
لا يزال لم يفهم ما يدور على الأرض رغم الأهازيج وبعض الهتافات المبهمة.. وكان لابد أن يفكّر بجدية أكثر في كيفية الخروج من المأزق وهل أنه سينجح أم لا؟
لسبب ما أستشعر بالخطر يقترب منه أكثر. 
ستكون بعد أقل من ساعة كالمجنون يرمونك بالحجارة؟
اضطرب وشوّش هذا الصوت ذهنه وكاد أن يتنازل عن كل أفكاره ومبادئه..يتركها شأنها شأن الكثير من الأمور السيئة التي مرت عليه.. تذكّر خطوته الحمقاء الأولى التي جعلته يقف أمام ذلك النصب البرونزي ويضربه بحذائه الجلدي ضربات مشحونة بالحقد.. كان يعرف أن صورته قد التقطتها الكاميرات ومصيرها الان في غرف المخابرات وأجهزة الأمن.. كان يعرف أن الأمر ليس بهذا اليُسر! خاصة وأن المارد لم يُعرف مصيره بعد.
لكنك لو نجحت ستكون تلك الخطوة الحمقاء كما اسميتها جبارةً.. يسجلها لك التاريخ .
عادت الأهازيج من جديد وبسبب توجسهُ الشديد رجّح ظهور المارد أو شبيهه.
ولاحت له صورة المارد وقد بدت تهيمن عليه وتسحبه الى مناطق أكثر عمقاً.. يتأمله وهو قادم نحوه بنظراته الحادة وعروق رقبته المتوترة.. فتأخذه رجفة شديدة ويتزحلق بجسده إلى أسفل حتى تلامس قدماه ماء النهر ويتسلل الماء بارداً إلى ساقيه. 
فتح عينيه جيداً وتأمل حافة الجرف شعر بجلبة وخطوات قادمة نحوه وسمع أصواتاً غريبةً لكنّه لم يميز أحداً منهم.. مرت دقائق قليلة ثم نودي عليه بصوت جهوري باسمه!.
نهض واقفاً بنصف جسده..سمع هدير طائرة مروحية تحلق فوقه سرح لا إراديا إلى أدنى الدرجات وبدا له بأنهم قد اكتشفوا أمره.. إذن سيلقون القبض عليه لا محال..آنئذ يأس من الحياة وصار الموت لا يعني له شيئا. 
سمع خطواتهم تقترب أكثر لتعبر الرصيف وتتلاشى ثم شعر أن هناك من يشدّه بقوة إلى أعلى.. كان يجاهد كي يتعرف على أحدهم لكنه لم يستطع أن يتحرك.. فقط أدرك أنه بعيداً عن الشاطئ.. وأنهم جادون في محاولة إخراجه.. بلحظات تاريخية غريبة لم تحدث حتى في القصص وجد أنه ارتقى أعلى الدرجات.. تنفس بعمق وشعر بالهواء النقي يملأ رئتيه وفي وسط الساحة عرضت صورا لوجوه جديدة.. وكانت الأصوات والأهازيج تتصاعد بشدّة أكبر هذه المرّة.