أخلاق حميدة

  • PDF

بقلم: الكاتبة إيمان هذلي ـ الـجزائر

كانت في إحدى الأزمنة إمبراطورية كبيرة وقوية لديها جيش باسل تحيط بها جدران منيعة أين يعيش سكانها هانئين مطمئنين لا يشكون غارات من إمبراطوريات أخرى ولا مشكلات أهلية وهذا لعلاقتها الجيدة معها من جهة ولهيبتها من جهة أخرى كل هذا بفضل إمبراطورهم الحكيم والسمح الكل كان يهتف باسمه وخصاله الحميدة عكس الإمبراطوريات الأخرى التي كانت دكتاتورية حيث يعاني شعبهم الظلم وجبروت الحكام كانت لديه زوجة مطيعة وثلاث بنات لكل واحدة ميزة خاصة تميزها عن الأخرى فالأولى كانت تحب الظهور وإقامة الحفلات والتسلط والثانية كانت طيبة لكنها قليلة الذكاء أما الثالثة فكانت لها شخصية قوية تشبه كثيرا أباها خَلقا وأخلاقا إلا أنّ هذا الإمبراطور ومع تقدمه في السن مرض مرضا شديدا ألزمه الفراش ولم يفلح الأطباء في علاجه وأخذ المرض يزداد أكثر فأكثر فأحس بقرب أجله وأخذ يفكر في مصير شعبه وإمبراطوريته فطلب وزيره وزوجته وأمر الحراس الخروج من الغرفة ثم قال: لقد قرب أجلي وأخشى على هذه الإمبراطورية التي سهر أبي على تشييدها وأفنيت عمري على تنظيمها بإسعاد شعبي وتوفير الأمن له ولهذا بعد تفكير طويل وضعت اختبار تقوم به بناتي الثلاث فمن تملك منهن الصفات اللازمة لحُكم شعب وخلف مكاني ستنجح بالتأكيد في هذا الاختبار. فقال الوزير: لكن عفوا يا سيدي الإمبراطور كل الإمبراطوريات تمشي وفق قاعدة واحدة الابن الأكبر هو من يخلف كرسي أبيه. فقال الإمبراطور: لا بل ذو الخصال الحميدة هو الأولى بهذا الكرسي. قالت زوجته متأكدة من حكمة زوجها: وما هذا الاختبار؟ قال الإمبراطور: على كل واحدة من بناتي عبور نهر التنين إلى جزيرة الوئام لجلب تفاحة السلام الذهبية فمن تنجح في ذلك تخلفني وتصبح إمبراطورة لكن عليهن الحذر فهذا اختبار صعب فمن تستخدم حكمتها وذكاءها تعود بسلام. جاء يوم الاختبار وافتتح بالبنت الكبرى فجهزت جنودها وعتادا حربيا قويا وركبوا البحر باتجاه الجزيرة متأكدة بأنها بهذه العدة والعتاد ستنجح في المهمة ساخرة من هذا الاختبار لكن حدث ما لم يكن في الحسبان في منتصف النهر استفاق التنين بفعل الضوضاء العارمة التي أحدثتها السفن الحربية وظهر لهم قائلا بغضب شديد: من أزعج نومي؟ أصيب الجنود وبنت الإمبراطور بالذهول عند رؤيته وأمرت بسرعة إطلاق السهام والرماح عليه لقتله فازداد غضبا وبضربة واحدة منه انقلبت السفينة وسقطوا كلهم في النهر وغرقوا. وبعد أيام عرفوا من طرف طائر الوزير أنها محجوزة مع الجنود لدى التنين في أعماق البحر فحزنوا عليها ثم أتى دَور البنت الثانية مستفيدة من تجربة أختها فطلبت قاربا صغيرا مع بضع حراس لكي لا تحدث ضوضاء أثناء عبورها النهر وأرسل الوزير طائره الخاص ليأتيه بالأخبار فعبرت النهر بسلام وما إن وصلت الجزيرة حتى أخذت تقفز من الفرح. كانت جزيرة مبهرة تعيش عليها مخلوقات عجيبة أما النباتات والأشجار فكانت كبيرة شامخة وكثيفة تتدلى منها خيوط ذهبية تلمع مع أشعة الشمس وفي كل ركن من هذه الجزيرة توجد شبه قرية فهناك قرى بها منازل صغيرة جدا محاط بها أزهار مختلفة الألوان وهناك أخرى بمنازل متوسطة ومنازل أخرى ضخمة كل حسب حجم قاطنيها إلا أنه يخيم عليها الهدوء بحيث تسمع رقرقة المياه وزقزقة العصافير ويغمرك نسيم هواء عذب. وبينما هي ماشية برفقة حراسها لمحت جبلا عاليا في قمته شجرة كبيرة تلمع ذهبا فعرفت أن هذه هي شجرة تفاح السلام التي تحدث عنها أباها الإمبراطور وبعد يوم طويل قضوه مشيا على الأقدام وصلت ولكم كانت فرحتها كبيرة فلم تكن شجرة واحدة فقط بل العديد منها باختلافها وتنوع ثمارها فنسيت تعليمات أبيها وأمرت الحراس بقطف جميع الثمار الذهبية الموجودة بتلك الأشجار وما إن تسلقوها حتى بدأت الأغصان تتحرك أمعنوا النظر فوجدوا ثعابين بنية تلتف حول الأغصان. قال الثعبان الأكبر: أنا حارس الأشجار الذهبية من أنتم؟ ومن أرسلكم؟ فردت ابنة الإمبراطور الثانية: نحن جيرانكم في الجزيرة المجاورة جئت هنا تلبية لطلب أبي بأن أحضر تفاحة سلام ذهبية لأصبح إمبراطورة. الثعبان الأكبر: ولكن أرى أنك شرعت بقطف كل الثمار الموجودة هنا وهذا عمل سيئ فأولا هذه الجزيرة لها سكانها وحراسها وأي دخيل عليها غير مرغوب فيه وثانيا هل طلبت الإذن من التنين؟ فردت عليه بخوف: أجل وقد سمح لي بالعبور. فقال لها: أين هو رسوله؟ فردت: أي رسول؟ فقال: إذن تكذبين من المستحيل أن يرسل غريبا إلى هذه الجزيرة دون رسول إلي كي نطمئن بأن لا يصيبها أي مكروه. فسكتت بنت الإمبراطور وعرفت أنها ارتكبت إلى حد الآن خطأين فادحين الأول هو عدم التقيد بتعليمات أبيها ونهب الثمار الذهبية والثاني هو الكذب. وبعد اجتماع الثعبان الأكبر مع الثعابين الأخرى قرروا حبس بنت الإمبراطور وحراسها إلى أن يجدوا حلا آخر. شاهد طائر الوزير كل ما حدث وحلق مسرعا ليقصها عليهم فحزنوا لما أصابها خاصة وأنه الآن لم تبقَ إلا فرصة أخيرة. فطلب الوزير البنت الصغرى للإمبراطور وقال لها: لم يبقَ غيرك يا أميرتي ليقوم بهذه المهمة فقد ازدادت صعوبة بحجز أختيك كرهائن لديهم وعليك تحريرهما لكن من أجل هذا يجب أن تتحلي بالكثير من الحكمة والتريث واتباع التعليمات ولا تدعي أي غرور يصيبك فهذه المخلوقات لها كل الحق في حماية موطنها عامليهم بإحسان سيعاملونك بالمثل. ركبت البنت الصغرى قاربا صغيرا وكيسا من الأعشاب الطبية في حال وجدت أختيها أو أحد الجنود جريحا وأرسل الوزير كالعادة طائره الخاص. عند وصولها منتصف النهر توقفت وانتظرت إلى أن استيقظ التنين فأخرج رأسه ليرى صاحب هذا القارب الصغير فرأى فتاة خائفة فقال لها: ماذا تفعلين هنا أيتها الفتاة؟ أصيبت بالذّعر أول الأمر لرؤيته ثم تشجعت وردت عليه قائلة جئت لأطلب منك السماح مكان أختي أنا متأكدة أنك مخلوق رقيق ومحب ولن تؤذيني طالما أتبع التعاليم وأحترم قوانين موطنكم. أعجب التنين بكلامها وقال: يتصور الجميع أنني شرير لكن لست كذلك بل حملت مسؤولية حراسة الجزيرة وأدافع عن نفسي في كل مرة يقومون بمهاجمتي. فقالت البنت الصغرى: لكنني حزينة لأنهم يحبسون أختي الآن رفقة حراسها وربما سيقتلونها إذا لم أسرع بإنقاذها وأنا متأكدة أنه بدون مساعدتك لا أستطيع ذلك. فقال لها: حسنا سأرسل معك رسولا يأمرهم بإطلاق سراحها بشرط معاهدتي بأن لا تمسي الجزيرة بسوء. شكرته وأكملت طريقها نحو الجزيرة برفقة الرسول فانبهرت هي الأخرى بجَمال طبيعتها والمخلوقات التي عليها فكانت في كل مرة ترى حيوانا يعجبها تحمله بين ذراعيها لتأمله وإطعامه وفي طريقهم سمعوا بكاء ذهبوا إلى المصدر فرأوا أقزاما صغارا محاطين بقزم فوقه غصن كبير سقط من شجرة فأسرعت بنت الإمبراطور لرفعه عنه وشرعت مباشرة في وضع أعشابها الطبية على جرحه لكي يلتئم فقد كانت بارعة في التمريض وبسرعة فائقة زال الألم  فشكرها الأقزام وأخبروها أن لديهم مرضى آخرون إذا ما أرادت معالجتهم فوافقت على الفور ورافقتهم إلى منازلهم الصغيرة لمعالجتهم وعندما انتهت شكروها وطلبوا منها قضاء بضعة أيام عندهم لكنها اعتذرت لأن أختها الآن رهينة لدى الثعابين وتخاف أن يقتلوها فأعجبوا بطيبتها فأهدوها طائرا كبيرا لإيصالها إلى قمة الجبل بسرعة وهكذا وصلت وأمر رسول التنين حاكم الثعابين بإطلاق سراح أختها وكذلك الحراس وإعطائها تفاحة ذهبية ففرحوا وعادوا على ظهر الطائر الضخم إلى الشاطئ فوجدوا جميع مخلوقات الجزيرة بانتظارهم سائلين لها تلقينهم مهنة التمريض وإعطائهم الأعشاب الطبية لغرسها عندهم ولها أن تطلب ما تشاء و هكذا فرحت بنت الإمبراطور الصغرى وطلبت منهم التوسط للإعفاء عن أختها الكبرى المحتجزة لدى التنين أيضا فكان لها هذا وقدموا لها سفينة لحمل جميع الحراس وبالمقابل فور عودتها أرسلت مجموعة كبيرة من الأعشاب الطبية رفقة ممرضين محترفين لتلقينهم مهنة التمريض وهكذا كسبت شعبا وحررت أختيها وجميع الحراس وعادت بطائر يحلق بها في كل مكان وتفاحة السلام الذهبية فاحتفل شعبها وتوجت إمبراطورة عن جدارة فلم تخيب أمل أبيها ولا شعبها وكان هذا بفضل ذكائها صدقها وطيبتها.