مراصد
إعداد: جـمال بوزيان
أخبار اليوم ترصد آراء أساتذة حول الوسواس القهري
وجوب التوعية باضطرابات هذا المرض المؤدي للانتحار
نسمع أحيانا عن انتحار كثير من فئات المجتمع بسبب الوسواس القهري وقد ازداد في الآونة الأخيرة.. سألنا أساتذة عن الأسباب الحقيقية الكامنة لظهور مرض الوسواس القهري ؟ وما الفئات المعرضة له؟ وهل يمكن شفاء تلك الحالات؟ وبأي الوسائل لحسن التوعية بالظاهرة الاجتماعية التي تتفاقم وقد يجهلها المصابون بها أو يخفونها؟..
الدكتورة صورية عبد الصمد أستاذة واخصائية نفسية :
هناك حالات تتطلب العلاج المعرفي السلوكي جنباً إلى جنب مع العلاج الدوائي
أشارت العديد من الدراسات أن الأفراد الذين يعانون من الاضطرابات النفسية هم أكثر الأفراد الذين يقبلون على الانتحار بمختلف المحاولات والخطط. وفي معظم الأحيان نسمع عن انتحار كثير من فئات المجتمع بسبب مايسمى اضطراب الوسواس القهري . هذا الأخير الذي يعرف على أنه نوع من التفكير المنهك الذي يلازم المريض بصفة دائمة ومستمرة وتشمل سماته الأساسية كل من الوساوس والأفعال القهرية حيث تتضمن الوساوس أفكارا وصورا تدخلية ومتكررة غير مرغوب فيها ويشعر الفرد أنها خارجة عن إرادته ولا يريد التفكير بها إلا أنه يجد نفسه مرغما عليها.أما الأفعال القهرية هي عبارة عن سلوكيات يقوم بها المريض من أجل التخفيف من ضغط الوساوس التي تسبب له الضيق والتوتر.. ومن الملامح الأساسية لهذا الاضطراب يمكن ذكر : خوف المريض من التلوث مما يجعله ينخرط في طقوس النظافة المسرفة سعي المريض للحصول على تأكيدات بشكل مستمر في كل شيء وعند حصوله عليها يشعر بالتحسن عند انخراط المريض في سلوك قهري معين يشعر أنه بحاجة إلى القيام به بدرجة عالية من الدقة وإذا حدث انقطاع يجد نفسه مجبرا على الإعادة من جديد مما يستهلك طاقته ووقته كما يحاول المريض طرح بعض الأسئلة عن نفسه ليفكر فيها بشكل مستمر على سبيل المثال هل توجد حياة بعد الموت؟ وهذا التفكير غير حاسم ومتواصل ومحبط ويقوم به المريض قهرا.
والجدير بالذكر أن أغلب الأسوياء لديهم مثل هذه الأفكار غير المرغوبة وبعض الوساوس المقتحمة إلا أنها تكون أقل كثافة وأقل تكرارا على عكس مرضى الوسواس القهري الذين تظهر لديهم بكثافة وبشكل مستمر ومتكرر مما يؤدي إلى التأثير على مختلف جوانب حياتهم وإعاقة انشطتهم اليومية وفي الكثير من الأحيان التوقف نهائيا عن العمل.
وغالبا مايعاني مريض الوسواس القهري من واحد أو أكثر من الاضطرابات المرضية المشتركة وكان الاكتئاب الشديد أكثرها شيوعا لدى هؤلاء المرضى ففي دراسة لـ (Kumar R & al) عام 2016 حول الاكتئاب وخطر الانتحار لدى المرضى الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري اتضح أن 40 بالمائة من المرضى يعانون من اكتئاب خفيف و16 بالمائة اكتئاب متوسط و10 بالمائة و 14 بالمائة يعانون من اكتئاب حاد وشديد على التوالي كما وجدوا أفكارا انتحارية لدى 52 بالمائة من المرضى و16 بالمائة من المرضى لديهم تاريخ من المحاولة الفعلية للانتحار. ووجدوا أن أكثر المحاولات الانتحارية كانت لدى أولئك الذين يعانون من أعراض النظافة والتلوث بنسبة 57 بالمائة تليها الهواجس الدينية 45 بالمائة والوساوس الجنسية 33 بالمائة والطقوس المتكررة 31 بالمائة.
أما لأسباب اضطراب الوسواس القهري يعتقد على الأرجح أنه ناتج عن مجموعة من العوامل البيولوجية العصبية والجينية والسلوكية والمعرفية والبيئية والتي تسبب الاضطراب لدى فرد معين في وقت ومرحلة معينة فهناك من افترض بأن الوسواس القهري سببه اضطراب في الناقل العصبي السيروتونين وهناك من يرى بأن العامل الوراثي له تأثير في نشأة الوساوس القهرية. وهناك من يرجح تجارب الحياة البكرة مثل الصدمات كسبب من أسباب الإصابة بهذا الاضطراب. أما أصحاب النموذج المعرفي فيرون أن السبب يكمن في المعتقدات والأفكار الخاطئة وسوء تفسير مريض الوسواس القهري للأفكار الدخيلة هو من يؤدي إلى تطوير الهواجس والوساوس المخزنة مما يدفع بالفرد الى الانخراط في سلوكات وأفعال قهرية بهدف التخفيف من الضغط والضيق والتوتر. كما يؤكد المعرفيون على أن تجارب الطفولة المبكرة تلعب دورا أساسيا في تحديد المعتقدات المختلة والتي ستتطور لاحقا عندما يتعرض الفرد لأحداث ضاغطة أو عوامل خطر مفجرة.
اما للفئات المعرضة للإصابة بهذا الاضطراب فقد أشار العديد من الباحثين بما فيهم (katia t & al) عام 2018 في دراستهم إلى أنهم وجدوا أن أكثر الأشخاص عرضة للإصابة بالوسواس القهري هم المراهقون والأشخاص الذين يتضمن تاريخ حياتهم بعض الأحداث المرغوب فيها وغير المرغوب فيها بشدة كما يكون خطر الإصابة بهذا الاضطراب أعلى بين الأشخاص العاطلين عن العمل وخاصة النساء كذلك الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات أو الذين لديهم تاريخ من تعاطي المخدرات هم أكثر عرضة لتطوير الوسواس القهري.
أما من جهة العلاج فلا بد من الحصول على فهم مناسب للاضطراب وحدوده والتركيز على الشكوى الإكلينيكية الأولية للمريض والتي من خلالها يتم تصنيف المريض في فئة مناسبة ومحددة وغالبا ما يكون اختيار العلاج حسب شدة الاضطراب وضعفه ففي بعض الحالات يمكن استخدام العلاج المعرفي السلوكي وهناك حالات أخرى تتطلب العلاج المعرفي السلوكي جنبا إلى جنب مع العلاج الدوائي.
أما من ناحية الشفاء فهناك حالات قد تخف شدة معاناتها المرتبطة بالوساوس والأفعال القهرية وقد تزداد في بعض الأحيان إن لم يتم الالتزام بالعلاج المحدد لها وهناك حالات أخرى تظل تعاني بصفة دائمة ومستمرة بسبب إخفاء الأعراض أو رفض فكرة العلاج مما يؤدي بهم مع مرور الوقت إلى الإصابة بالاكتئاب وفي حالات كثيرة التفكير في الانتحار. مع العلم أن هناك أشخاصا تكون الأفعال القهرية التي يقومون بها مكشوفة وملحوظة من قبل الآخرين. وبالمقابل هناك من المرضى لديهم قهر ذو طبيعة معرفية غير مكشوف كالذي يردد كلمات بذيئة في ذهنه على شكل صور غير مرغوب فيها.
على الجميع أن يعلم بأن اضطراب الوسواس القهري هو اضطراب خطِر جدا يؤثر بشكل كبير على حياة المريض ويعيق جميع نشاطاته مما يؤدي به إلى التفكير الدائم في الانتحار مع مرور الوقت بسبب المعاناة التي يعيشها. لذلك وجب التوعية بهذا الاضطراب وملامحه وأعراضه من خلال حملات تحسيسية وتوعوية إلى جانب تفعيل دور وسائل الإعلام في نشر المعرفة من خلال برامج تثقيفية إلى غير ذلك.. ومن أجل التعاون الفعال بين كل فئات المجتمع يحتاج الجميع إلى فهم الملامح الأساسية لمثل هذه الاضطرابات من أجل طلب المساعدة من المختصين في الوقت المناسب وفي مراحل مبكرة.
الدكتور خالد شنون ـ أستاذ جامعي :
التعامل مع المسلم بقوة الإيمان قد يعزز الوجود لدى المريض ويبعده عن الوساوس القهرية
يعيش المجتمع المعاصر حياة تختلف عما كانت عليه من قبل وهذا طبيعي جدا أمام تحديات معاصرة لم تكن من قبل عصر تميز بالضغط والسرعة وصعب فيه أن تبني افرادا على القيم والمبادئ التي طالما أمنت حياة الأفراد وعشرتهم مع بعضهم بعضا وجعلتهم كالجسد الواحد حيث أصبح بعض من الناس يتميزون اليوم برهافة المشاعر والبعض غلبت عليهم الأنانية ولم يستطيعوا السيطرة على تفكيرهم النرجسي والأناني وحب التسلط على الآخرين وحينئذيضيع حق الآخرين في تجاوزات بعضهم كما أن المجتمع والقائمين عليه لم يقوموا بما يكفي لتأمين الحياة الاجتماعية أمام ارتفاع مستوى الضغط لدى الأفراد والتعصب للرأي وعدم إدراك أهمية الحياة ببعدها الاجتماعي على غرار البعد الذاتي حيث زادت مستويات أعراض الأمراض خاصة النفسية منها وأبرزها القلق والخوف والتوتر والوسواس القهري.
والوسواس القهري هو أحد الأمراض النفسية التي تجعل الفرد لا يسيطر على تفكيره العاقل والمعتدل فتجده يشك في أي شيء ولا يثق في أي شيء من حوله وله مقاييس نفسية تحدد ما إذا كان لدى الفرد هذا العرض أم لا حتى لا يكن الحُكم ذاتيا والوسواس القهري يرتبط بالبعد الوجداني والنفسي في سلوك الفرد وينعكس على رد فعل تجاه مواقف الحياة المختلفة وهو عرض يتطور ابتداء من مستوى بسيط إلى أن يصبح مستوًى معقدًا قد ينتج ابتداء من متغيرات المحيط كما قد يتسبب فيه نمط الشخصية وطباعها إن لم يحكمها الاعتدال والمشاركة الاجتماعية في الأدوار وهو اضطراب قد يشتد إلى دفع الأفراد بالتفكير في مغادرة المجتمع والقهر أي قهر الذات من خلال ممارسة سلوك الانحراف والخروج عن المجتمع.
والوسواس القهري كأي مرض نفسي يمكن معالجته انطلاقا من شخصية الفرد الذي يعاني منه حسب نظرته لذاته ولسلوكاته حيث في أغلب الأحيان يسلك الفرد طباعا يراها أنها تتلاءم مع مفهوم الذات لديه وهنا يتدخل المختص لتصويب إدراكات المصاب بالوسواس القهري انطلاقا من مفهوم الذات لدى هذا الأخير ويتم ذلك من خلال حصص إرشادية مخططة ومقننة بزمن علاجي معين إضافة لإمكانية تدخل الطبيب العادي لتأكيد عدم وجود عرض جسدي لدى المعني وهناك خلفية أخرى للعلاج تنطلق من المثير الـأساسي لرد فعل المصاب بالوسواس القهري انطلاقا من نظرية مثير استجابة وعليه فتعديل المثير قد يعدل الاستجابة كما أن هناك علاجا ينطلق من الجانب الوجداني العقلاني حيث يعمل المختص على إقناع المعني وبتوظيف الرصيد الوجداني للمعني في العملية الإرشادية للكف عن أي رد فعل غير منطقي وغير مرغوب لدى المجتمع ناهيك عن الجانب الروحي الذي يمكن توظيفه كون التعامل مع المسلم بقوة الإيمان قد يعزز الوجود لديه ويبعده عن الوساوس القهرية.
الدكتور أحمد جاد ـ شيخ معهد بالأزهر الشريف :
ولاة الأمور والعلماء والمجتمع يتحملون مسؤولياتهم نحو ظاهرة الانتحار ويجب معالجة أسبابها
إن إقدام شخص ما على الانتحار يلقي بالمسؤولية على الحكومات والمجتمع قبل لوم الضحية.
من الأمور التي تحتاج إلى معالجة مجتمعية عاجلة قضية تناول المجتمع لمسألة الانتحار إذ أول ما يتبادر إلى ذهن العربي حين يقال أن شخصًا ما قد انتحر : أن ذلك الشخص قد مات كافرًا.
وهو تفكير قاصر بلا شك وهروب من المسؤولية فبدلًا من البحث في الدوافع والأسباب التي أدت بشخص ما إلى الإقدام على إزهاق نفسه وإنهاء حياته إذا بنا نلقي اللوم على الضحية.
ولسنا هنا بصدد الموافقة على إقدام شخص ما على الانتحار ولا التبرير لذلك الفعل المرفوض دينيا أما وقد وقع فلا بد من النظر في الأمر نظرة شاملة من كل الجوانب.
حكم قتل النفس :
حرم الإسلام قتل النفس رأفة بالإنسان قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (النساء: 29).
قتل النفس الانتحار فعل محرّم في شتى الشّرائع السّماويّة وقد أكّد الإسلام على تحريمه تحريمًا قاطعًا لا لبس فيه ففي الحديث الشّريف عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وفيه : (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَة فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَل فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا).
وقوله صلى الله عليه وسلم : خالِدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا محمولٌ ـ كما قال العلماء ـ على مَن فَعَل ذلِك مُستحِلًّا له مع عِلْمِه بالتَّحريمِ أو على أنَّه يَعْني طُولَ المُدَّةِ والإقامةِ التي يُخلَّدُ فيها قاتلُ نفْسِه إنْ أُنفِذَ عليه الوعيدُ ولا يَعنِي خُلودَ الدَّوامِ.
فالانتحار وإن كان من أقبح الكبائر لكن من فعل ذلك لا يكون كافراً عند أهل السنة والجماعة إذا كان مسلماً معروفاً بالإسلام موحداً لله عز وجل مؤمناً به سبحانه وبما أخبر به ولكنه انتحر لأسباب إما مرض شديد أو جراحات شديدة أو أشباه ذلك من الأعذار. فهذا الانتحار منكر وكبيرة من كبائر الذنوب ولكنه لا يخرج به من الإسلام إذا كان مسلماً قبل ذلك لا يخرج بالانتحار من الإسلام بل يكون تحت مشيئة الله تعالى كسائر المعاصي إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة بإسلامه وتوحيده وإيمانه وإن شاء عذبه في النار على قدر الجريمة التي مات عليها وهي جريمة القتل ثم بعد التطهير والتمحيص يخرجه الله من النار إلى الجنة.
وإنّ علّة تحريم الانتحار شرعًا أنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان صاحب هذه الرّوح التي استودعها جسده وعليه : فلا يملك الإنسان حق التصرف بهذه الروح بل ولا بجزء من جسده.
فعلى ولاة الأمور والعلماء والمجتمع تحمل مسؤولياتهم للوقوف أمام هذه الظاهرة التي تجتاح بلادنا بدراسة أسبابها ومعالجة تلك الأسباب ببث الأمل في نفوس الشباب بتوفير أسباب الحياة الكريمة وفتح آفاق الحرية وتذليل العقبات التي تقف سدًّا أما تحقيق ذاتهم وبث روح العدالة في المجتمع.
أما أن تقف نظم وحكومات في وجه الشباب وتمنعهم حتى من التعبير عن آرائهم ثم إذا أقدم أحدهم على قتل نفسه تدفع تلك الحكومات بأبواقها الإعلامية بالنيل من الضحية وبأذرعها الدينية لتتهم من أقدم على ذلك بالكفر دون الالتفات إلى الأسباب التي جعلته يقدم على ذلك فإن ذلك والله لهو الحيف والضلال المبين.
..يتبع..