الإمام اتبع منهجاً محكماً في كتابه الجامع للأحاديث النبوية

  • PDF

مراصد 
إعداد: جـمال بوزيان

أخبار اليوم ترصد آراء أساتذة حول محاولة تشويه صحيح البخاري :
الإمام اتبع منهجاً محكماً في كتابه الجامع للأحاديث النبوية 

يتربص من حين إلى آخر أدعياء العِلم بـ صحيح البخاري للإمام الـمحدث أبي عبد الله محمد بن إسماعيلالبخاري.. ومنهم منينفون نسبته له ويعرضون شبهات للنيل من أصح كتب الحديث النبوي الشريف وقد عرضوا سابقا أباطيل ولا يزالون يطعنون فيه عبر أراجيف وشككوا حتى في القرآن الكريم ونزوله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
سألنا أساتذة عن رد هادئ دامغ وإبراز المنهج العلمي الذي اتبعه الإمام البخاري في جمعه للحديث النبوي الشريف وحفظه له.

الدكتور ناعوس بن يحيى ـ أستاذ جامعي :
البخاري يدافع عن نفسه 
الشيء الجميل والمتزن والمتقن يتعرض دائما لمن يحاول القدح فيه ليزيده نصاعة وجمالا من حيث لا يدري ونحن نعلم أن الإسلام تعرض ويتعرض منذ عهد النبوة على هجمات مغرضة وشرسة ومدروسة وممنهجة لحد من انتشاره ولكنه زاد انتشاره في كل مكان وفي كل زمان وسيبقى عاليا إلى عنان المجد والرقي: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . (40)سورة التوبة. ومن الهجمات الأخيرة ما يتعرض له الإمام البخاري من حملة تحاول الحط من منزلته وقد اجتمعت الأمة على قبول أحاديثه التي أخرجها في كتابه..إن الإمام البخاري اتبع منهجاً محكماً في جمع الأحاديث النبوية الصحيحة واستنتج العلماء شروط الإمام البخاري في قبول الحديث من منهجه والأسانيد التي وضعها وقبلها حيث لم يصرح بشروط قبول الحديث في مسنده ويمكن أن نوجز شروطه في قبول الحديث بما يأتي: 
الحديث الصحيح المقبول هو الحديث الذي رواه العدل الضابط من أول السند إلى منتهاه من غير شذوذ أو علّة والعدل هو الذي يتصف بصفات التقوى والعدالة والسلامة من خوارم المروءة والضابط هو الحافظ الذي يتقن حفظه ومن غير شذوذ أي عدم مخالفة راوي الحديث لرواية من هو أوثق منه والعله هي أمر خفي في سند الحديث أو متنه يمنع عنه الصحة. الحديث الذي يرويه الثقات الملتزمين عن أعيانهم بشرط طول الملازمة سفراً أو حضراً.
الثقة والاشتهار في راوي الحديث. 
شرط المعاصرة والسماع فقد تشدد الإمام البخاري في قبول الحديث أكثر من غيره من علماء الحديث فاشترط أن يكون راوي الحديث معاصراً لمن يحدث عنه بالإضافة إلى شرط السماع منه بقوله عند رواية الحديث حدثني أو سمعت منه أو أخبرني أو غير ذلك من الألفاظ التي تفيد السماع المباشر.  وقد جمع الإمام البخاري في مسنده الصحيح ما يقارب من السبعة آلاف حديث صحيح انتقاها من ستمئة ألف حديث جمعها وكان قبل أن يضع الحديث يصلي ركعتين ويستخير الله زيادة في التثبت. يمكن استيعاب منهج الإمام البخاري في الحديث الصحيح وشروطه فيه من أمرين: 1. من الاسم الذي سمي به الجامع الصحيح. 2. وهو من الاستقراء من تصرفه. فهو قد سماه كتاب الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه وهو الجامع بمعنى أنه لم يختص بصنف دون صنف ولذلك أورد فيه الاحكام والقضايا والأخبار المحضة والآداب والرقاق. وهو الصحيح أي أنه ليس فيه شيء ضعيف عنده كما قال : (ما أدخلت في الجامع إلا ما صح). وهو المسند أي أنه خرج فيه الأحاديث المتصلة الإسناد ببعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه ولم سواء من قوله أو فعله أو تقريره. وهكذا يمكن حصر شروط البخاري في صحة الحديث فيما يأتي: أن يكون الحديث متصلا. وأن يكون رواته عدولا. وأن يكونوا متصفين بالضبط. وأن يخلو الحديث من العلة أي ليس فيه علة قادحة ولا شاذا بأن يخالف رواية من هو أكثر عددا منه وأشد ضبطا وقد أوضح البخاري منهجه في الاتصال بدقة متناهية عند غيره حيث اشترط في المعنعن شرطين وهما : اللقاء المعاصرة وفي ذلك يقول: (الاتصال عندهم أن يعبر كل من الرواة في روايته عن شيخه بصيغة صريحة في السماع منه كسمعت وحدثني وأخبرني أو ظاهرة كعن وأن فلان قال أي أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من حدث عنه ولو مرة واحدة مع اشتراط أن يكون ثقة فإذا ثبت عنه ذلك حملت عنه عنعنته على السماع وعلة ذلك أنه إن لم يثبت لقاؤه له وإنما كان معاصرا له احتمل أن روايته عن طريق الإرسال وأما إذا حدث عن شيخه بما لم يسمعه منه كان مدلسا وبذلك كان شرط البخاري في الاتصال أقوى وأتقن عند غيره وخاصة مسلم وابن حنبل وغيرهما الذين اكتفوا بالمعاصرة دون اللقاء إن طريق ثبوت اللقاء عند البخاري تدور على التصريح بالسماع في الإسناد فإذا ثبت السماع عنده في موضع يحكم به سائر المواضع ومن أجل ذلك كان البخاري يثبت في الرجال الذين يخرج عنهم ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه وإن فعل فإنما يخرج في المتابعات بشرط أن تقوم قرينة وأن يكون ذلك مما ضبطه الراوي. قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه في علوم الحديث عن منهج البخاري (وجاء محمد بن اسماعيل البخاري أمام المحدثين في عصره وخرج أحاديث السنة على أبوابها في سنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين واعتمد منها ما اجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه).  كان بعد نفسه لكل حديث بالغسل والصلاة وفي ذلك يقول البخاري (أخرجت هذا الكتاب يعني الجامع الصحيح من نحو ستمائة ألف حديث وصنفته في ستة عشر سنة وجعلته حجة بيني وبين الله).  وقال أيضا : (ما وضعت في الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين). أما مكان تصنيفه فبين الحرمين الشريفين فقد صنفه في المسجد الحرام ووضع تراجمه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره وفي ذلك يقول: (صنفت كتاب الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا إلا بعد ما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته). قد شمل منهج البخاري طريقة أخذ الحديث وكتابه وجمعه واختيار الشيوخ ورجال الإسناد. أما طريقة أخذ الحديث فقد اتخذ البخاري لنفسه منهجا لاختيار شيوخه وفي بحثه وتأليفه فلم يكن يأخذ إلا عن الثقات وفي ذلك يقول : (كتبت ألف ثقة من العلماء وزيادة وليس عندي حديث لا أذكر إسناده وهو من أجل ذلك كان اهتمامه البالغ بمعرفة حالالرواة وكيفية تلقيهم للحديث حتى يطمئن إلى أخذه عنهم قال: (لم يكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبه وحمل الحديث إن كان الرجل فهما فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته أما الآخرون فلا يبالون بما يكتبون). لقد كان منهجه في رجال الاسناد وشيوخه ودرجة من يأخذ عنهم أنه لا يأخذ إلا عن الثبت الراجح الثقة عنده وعند المحدثين كما كان متحريا إلى أقصى درجات التحري حتى نشأ عن هذا التحري فيمن يأخذ عنهم تركه الأخذ عن كل من فيه نظر مهما كانت كثرة حديثه وقد قال في ذلك جوابا عن خير حديث : (يا أبا فلان أتراني أدلس؟ تركت أنا عشرة آلاف حديث لرجل فيه نظر وتركت مثله أو أكثر لغيره فيه نظره). ولذلك كان يبالغ ويتشدد في التحري فيمن يروي عنهم بما لم يسبق إليه فلا يكتب إلا عن الورع الذي يقول الإيمان قول وعمل يقول البخاري في ذلك: (إن الدين قول وعمل وإن القرآن كلام الله لقد لقيت أكثر ألف رجل من أهل الحجاز والعراقي والشام ومصر وخرسان وما رأبت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء). وهذا رد مفحم لأنه يستند على منهج علمي اتبعه البخاري في إخراج أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فوق ذلك استند على توفيق الله بأنه كان يعود إليه طهارة وصلاة بين يديه ليوفقه في عمله هذا.

الدكتور مصطفى حنانشة ـ أستاذ جامعي :
عِلم الإمام البخاري

وعندنا في علوم الحديث أمر دقيق وهو ما يسميه العلماء مشكل الحديث وهو ما تعارض ظاهر الحديث مع القواعد فأوهم معنى باطلا أو تعارض مع نص شرعي كالقرآن أو الحديث أو مع التّاريخ أو مع الحقائق العلميّة أو غيرها..وحلّ إشكاله يقوم به العالم الفقيه الثّاقب النّظر مثل الإمام البخاري ليقف على حقيقة المراد من الأحاديث النّبوية..قال الشّيخ نور الدّين عتر ملخصا الوصف: وقد تهجم طوائف من أهل البدع على السّنة وأهل الحديث بسبب زيغهم في فهم الأحاديث على وجهها حتّى اتهموا المحدّثين بحمل الكذب ورواية المتناقض ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ تبعهم في عصرنا المستشرقون ومقلدوهم واحتجر على عقله وغلف بحواجزها مشاعره. وإن كان بعضهم قد يتذرع باسم التّحرر في فهم الدِّين أو فتح باب الاجتهاد!..وهذا الصنف من النّاس يوازي في ضرورة أولئك الجهلة المتزهدين الذين سوغوا الوضع والكذب في الحديث للتّرغيب والتّرهيب فإنّ كلا من الفريقين استباح لنفسه التّحكم في متن الحديث فاختلق فيه أناس بجهلهم وجحد الآخرون صحيحه بغرورهم.
وفي الواقع أنّ ادعاء التّعارض ليس بالعسير مادام في النّصوص مالا بد منه من عام وخاصّ مستثنى منه أو مطلق ومقيد يقيد به فهل نطبق على هؤلاء النّاقدين نقدهم ونطرح فكرهم وقانونهم وهلا وسعتهم جملة الأحاديث العظمى المُحكمة التي لا إشكال فيها ولا سؤال. وقد عني أئمّة الحديث وجهابذة نقده بهذا الفنّ فدرسوا ما وقع من الإشكال في الأحاديث الصّحيحة دراسة وافيّة من النّاحية العامّة الكليّة ومن النّاحية التّفصيليّة الجزئيّة لكنّ الجهل عداوة للنّفس.
الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري شخصيّة عبقريّة فذة فريدة في زمانها ملكت ناصيّة العلوم المختلفة فقد كان يختم القرآن في تراويح رمضان كلّ سبعة أيام ويأتي من لا يعرف حتّى قراءة آيتين قراءة صحيحة ليقول إنّ هذا الحديث يخالف القرآن وكأنّ الإمام البخاري لا يعرف القرآن وكانت نشأته على مذهب الإمام أبي حنيفة فقهيّا فدرس فقه الرّأي وتمكّن فيه وبرع ثمّ توجه لحفظ أقضية الصّحابة رضوان الله عليهم جميعا أقوالهم وفتاويهم وأحكامهم ثمّ أقوال التّابعين ثمّ مذاهب الأئمّة المختلفة وأخذ علم الكلام والمنطق  من أقوال الكرابيسيّ وبن كلاب وغيرهما من أئمّة الكلام فالإمام البخاري جامع لشتات العلوم على أصولها حتّى لا يأتي مستروح ويقول هذا الحديث يخالف القرآن أو يخالف الفقه أو يخالف العقل. 
وقد تعجّب العلماء من صناعة الإمام البخاري لتبويبات كتابه فقالوا: إنّ تراجم الصّحيح تعطي الصّورة الواضحة والدّليل القاطع على مقدرة البخاري وسعة علمه وقوة حفظه ودرجة تفوقه في فهم الكتاب والسّنة واستنباط الأحكام منهما والاستدلال لأبواب أرادها من الأصول والفروع والزّهد والرّقائق واستخراج فقه الحديث وماله صلة بالحديث المروي فيه. وبه ربط الفقه والحديث بالقرآن بعضه مع بعض فكانت تراجمه صورة حيّة لاجتهاده وعبقريتهومنهجيته..قال عنه الحافظ ابن حجر: استخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرّقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السّبل الوسيعة .
وهناك استشارة العلماء المعاصرين حيث قال أبو جعفر العقيليّ لمّا ألف البخاريّ كتاب الصّحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المدينيّ وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصّحّة إلا في أربعة أحاديث قال العقيليّ: والقول فيها قول البخاريّ وهي صحيحة.
وهناك جانب آخر يفهمه المسلمون هو الجانب الرّوحي حيث قال تلميذه عنه محمّد الفربري: قال البخاريّ: ما كتبت في كتاب الصّحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.

..يُتبع..