ضرورة إصلاح القِطاع بمعايير عالمية وانتهاج التجربة الفنلندية

  • PDF

مراصد 
إعداد: جـمال بوزيان

أخبار اليوم ترصد آراءً حول أهمية التعليم في التقدم الحضاري
ضرورة إصلاح القِطاع بمعايير عالمية وانتهاج التجربة الفنلندية

التعليم أساس كل نهضة علمية وفكرية وثقافية وحضارية وتكنولوجية وصحية وغيرها.. سألنا أساتذة عن أهمية التعليم في بناء المجتمعات والدول وأفضل المناهج المثمرة في العالم وعن إمكانية استثمار البلدان السائرة في طريق النمو في قطاع التعليم من أجل التقدم والازدهار.

المهندس رابح بلكحل ـ أستاذ وكاتب :
التاريخ لا يزال يثبت أن التعليم أساس نهضة الأمم

بداية نذكر بقول الشاعر أحمد شوقي:
العِلم يرفع بيتا لا عماد له **** والجهل يهدم بيت العز والشرف.

يلخصهذا البيت أهمية العِلم ويبين قدرته العجيبة على رفع الأفراد والمجتمعات إلى القمة دون سابق إنذار أو يهوِي بها إلى قاع سحيق بالرغم مما ورثته من قوة ومناعة فالعِلم هو العمودالذي تقوم عليه الأمجاد وتبنى به وعلى أساسه الأمم والمجتمعات.
بالعِلم ننشئ المُواطِن الصالح الذي يتشكل منه المجتمع الراشد وكما يسمح للفرد بأن يحسن وضعه الاجتماعي فإن المجتمع من خلاله يرتقي في سُلَّم التطور والنمو والعكس بالعكس.. فالمجتمع المتطور بعِلمه يوفر بالضرورة حياة كريمة لأفراده..فالمشكلات والأزمات التي تعرقل سير الأمم وتعطل نموها وتطورها حلها السحري هو اعتماد العِلم كوسيلة أساسية لمعالجة مختلف هذه المعضلات والتجربة الدالة على ذلك ما نزال نعيش آثارها الآنية فبعد أن لجأنا إلى العِلم وسلمنا دفة تسيير أزمة وباء كورونا للمختصين تحت عنوان اللجنة العلمية لمتابعة ومكافحة وباء كورونا فهاهي النتائج الكبيرة المحققة في الميدان التي أقلها تجنب الموجة الثالثة للوباء وهي تضرب حاليا أوروبا و الغرب عموما.
وفي المقابل نجد مثالا مضادا يظهر في الخسائر المادية الكبيرة التي لحقت الخزينة العمومية(حوالي 3 آلاف مليار عام 2020 م فقط) جراء سوء تسييرنا لملف الأخطار الكبرى المعرض لها بلدنا بحُكم موقعه الجغرافي كالزلازل والفيضانات وحرائق الغابات أو بحُكم فوضى العمران وهشاشة البُنَى التحتية وغيرها من الأسباب والمسببات..تُضاف لها الخسائر البشرية التي لاتعوض فهذا الملف الاستراتيجي نجح فيه غيرنا باعتمادهم على خطط علمية دقيقة للوقاية من المخاطر بمتابعتها ورصدها وتجاوزوا بذلك وضعية الاجتهاد في إدارة الكارثة بعد وقوعها..وكما يفيدنا العِلم في حل مشكلاتنا المادية فدوره أهم وأثره أوضح لحل معضلاتنا ذات الطابع الاجتماعي الثقافي وحتى السياسي..فالمجتمع الذي يؤمن بالعِلم ويستلم تأطيره مختصون في مختلف فنون العلوم الإنسانية مؤكد نجاحه وخروجه من أي أزمة يقع فيها وبإمكانه تجاوز كل العراقيل الاجتماعية التي تعطل مسيرته التنموية.
ولنا في التجربة اليابانية أحسن دليل على ما ذهبنا إليه فاليابان الفقير من أي ثروة طبيعية والمُقطَع الأوصال(متألف من حوالي 3 آلاف جزيرة مفصولة بعضها عن بعض) والمكون من أراض بركانية قاحلة لاتنبت أي نوع من أنواع النبات.. ضف لذلك الزلازل شبه الدائمة التي يتعرض لها..فأمة في وضعها لاتملك أي من مقومات النمو والتطور كيف أمكنها حجز مكانة ثابتة منذ عقود في مجموعة الـ8الكبار في العالم أو شغل المراتب الأولى في مجموعة أقوى اقتصاديات العالم.. الجواب ليس غيبيا ولاسحريا لقد حققت اليابان نجاحاتها الباهرة وخرجت قوية بعد خسارتها المهينة (الحرب العالمية الثانية) بفضل نظامها التعليمي الفعال الذي اعتمدته كسبيل واحد ووحيد للنجاح والتفوق.. وزيادة في التدليل على أهمية النظام التعليمي أنظر الكوريتين فأصلهما شعب واحد وأرض واحدة بمقومات طبيعية واجتماعية واحدة وانطلقتا منالخط نفسه (دمار وخراب..) لكن الفارق بينهما في مراتب الحياة المادية والاجتماعية يقدر بمئات السنين.. فإذا كان الشعب في كوريا الشمالية لم يشبع حتى من الخبز الحافي تسجل تأخرا قاتلا في جميع ميادين الحياة حيث ما يزال شعبها يستعمل الكهرباء بنظام المناوبة.. في المقابل نجد جارتها الجنوبية تسجل أعلى معدلات النجاح والتطور بحيث أصبحت مصدرا عالميا للتكنولوجيا ومظاهر الحضارة والتمدن.. فماالسر ياترى؟ الجواب بسيط ويعود إلى التاريخ القريب فالذين عملوا على تقسيم كوريا إلى أختين متصارعتين بعد الحرب الكونية الثانية فرضوا عليهما خيارات فلسفية في نظام الحُكم نتج عنه اتباع سياسة تعليمية مختلفة تماما.. فنجحت كوريا الجنوبية بفضل نظامها التعليمي الفعال بينما فشلت كوريا الشمالية وتعثرت مسيرتها ولم تستطع حل أدنى مشكلاتها.
ولنا في الألمانيتين(قبل توحيدهما) مثال صارخ آخر..فهل بقي من بعد هذا شك في دور النظام التعليمي وأهميته؟
وكبقية البلدان التي تطمح إلى التطور والنمو فليس أمام بلدنا الحبيب إلا الاستثمار في النظام التعليمي وتطوير سياساته..وأول خطوة علينا أن نخطوها هي التخلص من الفكرة التي تنص على أن التعليم قطاع غير منتج ! واعتماد فكرة أن التعليم هو قطاع الإنتاج الأول التي على أساسها نقترح الخطوط العريضة الآتية:
1- تطوير برامج وخطط العملية التعليمية بطريقة علمية بيداغوجية يضعها مختصون بعيدا عن الطرح الإيديولوجي المعطل لمسيرة الأمة.
2- تخصيص اعتمادات مادية في مستوى الهدف المنشود ولنجعل من مخصصات التعليم الحصة الأكبر في ميزانية الدولة.
3- تشجيع الإطار البشري المتفوق وجلبه لتأطير العملية التعليمية بتشجيع المعلم وحفظ كرامته ومنحه موقعه اللائق في السُّلَّم الاجتماعي.
4- ترسيخ قاعدة أساسية مهمة باعتمادها في ميادين العمل المختلفة والتي تقوم على تثمين العِلم واعتماده مقياسا أساسا للرقي الاجتماعي.
فالنظام التعليمي نظام قائد لباقي القطاعات الأخرى ونجاحه يعني نجاح المجتمع ككتلة واحدة.. مما وردنا حادثة اجتماع تشرشل مع وزرائه قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث طلب منهم تقييم الأوضاع كل حسب قطاعه.. وعندما بدأ كل منهم التقييم المدعوم بالإحصاءات والأرقام والوثائق لاحظ تشرشل أن التقارير تصور وضع إنجلترا بالمتردي فقاطعهم ووجه لهم سؤال مفصليا واحدا وهو:(ما وضعنا في التعليم والقضاء؟!).. فجاءت الأجوبة الحاسمة: .. إنهما جيدان فعلق تشرشل : ..إذن وضعنا سليم..ورفع جلسات التقييم.. وفعلا أثبت التاريخ أن وضعهم سليم جدا.. .

الدكتورة فتيحة بن كتيلة ـ أستاذة وكاتبة :
المدرسة الفنلندية ترى رسوب الطالب ظلما له..

التعليم أساس كل نهضة علمية وفكرية وثقافية وحضارية وتكنولوجية وصحية فالأمم العظيمة تهتم بالعلم والتعليم لأنه السبيل الأوحد والوحيد للتقدم والتطور والنمو وقد ذكر ذلك العديد من العلماء والفلاسفة مقولات تبين دور العلم والتعلم حيث يقول نيلسون مانديلا : التعليم هو السلاح الأقوى الذي يمكنك استخدامه لتغيير العالم .
أما(أفلاطون) يرى أن الفرد الذي يهمل التعليم يسير أعرج حتى نهاية حياته..أما(جون ديوي) يرى أن  التعليم منهج اجتماعي التعليم هو النمو التعليم ليس تحضيرا للحياة التعليم هو الحياة نفسها.
ويقول(ابن القيم) رحمه الله تعالى: ولم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين والالتحاق بعالم الملائكة وصحبة الملإ الأعلى لكفى شرفا وفضلا فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به مشروط بحصوله؟.
ومنه نقول الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم وهذا يعطينا يقينا أن تقدم الأمم وتطورها لا يقاس بمدى امتلاكها للثروات الطبيعية (بترول غاز..) بل تقاس المجتمعات المتطورة بمستوى تعلم أبنائها ومستوى هذا التعليم ومدى تطوره وهذا ما نلمسه في الدول العربية فهي غنية طبيعيا لكنها تعاني مرارة التخلف وعدم مواكبتها العصر خلاف الدول الأوروبية المتقدمة أيضا اليابان وغيرها.
فالتعليم الجيد والمتطور ينعكس إيجابيا على المجتمع والدولة.. لذا وجب على كل دولة ترغب في التطور والنمو إلى الإمام الاهتمام بالعلم والتعلم وأن تبذل جهدا فعالا في تطوير وتوفير التعليم لأبنائها من خلال مناهج جيدة وصالحة وتواكب العصر والتطور لا مناهج قديمة تعتمد على الحشو للمعلومات وتخزينها كأنها عملية تمرين للذاكرة لا تطوير للقدرات العقلية والمهارات.
إذ تعد اليونيسكو التعليم حقا من حقوق الإنسان الأساسية فهويرسي القواعد اللازمة لبناء السلام وتحقيق التنمية المستدامة.

أفضل المناهج:
هناك تصنيفات عدة وجديدة لأفضل النظم التعليمية في العالم فتتقدم دول وتتراجع أخرى إلا أن بعض الدول تتصدر الصدارة ودائما في المقدمة وتبقى فنلندا ضمن خمس أفضل نظم التعليم عالميا من حيث جودة التعليم وتلاشي الفروق بين المدارس وكفاءة المعلم واستقلاليته.
وفلسفة التعليم الفنلندية من جهة أخرى مدارس فنلندا مدارس حكومية مجانية وعدم وجود فروق بينهما وفق مبدئي العدالة في التعليم والمساواة في الفرص.
نجحت فنلندا في التعليم لأنها قضت على جراثيم التعليم كما يسميها الدكتور (سالبرغ) وهي: تكثيف المواد كثرة الاختبارات والواجبات إطالة أوقات الدوام (البقاء فترة طويلة في المدرسة) الدراسة المنزلية والدروس الخصوصية كلها أساليب يؤكد (سالبرغ) على أنها جراثيم قادرة على هدم أي نظام تعليمي يعتمد  عليه وهي ممارسات غير تربوية لا فائدة منها سوى إرهاق الأستاذ والتلميذ معا وإضعاف عملية التعليم ككل.. ويجب أن نذكر أنفسنا دائما بأهداف التعليم أولها بناء اقتصاد جيد وثانيها المحافظة على ثقافة البلد وآخرها يجب أن نقتنع أن الأساليب الجرثومية السابقة الذكر لا تحقق ذلك وللأسف.
مقارنة بين التعليم في فنلنداوالجزائر:
تدريس أقل = تعلم أكثر عكس الدول العربية ساعات تعليم طويلة تعادل ثماني ساعات يوميا وتعليم قليل وترتيب عالمي في ذيل الترتيب فالجزائر ترتيبها 129 عالميا.
البيوت الفنلندية تخلو من الدروس الخصوصية عكس ماهو في الجزائر فصارت البيوت عندنا مدارس شغالة ليل ونهار والأولياء معلمون وتلاميذ فهم يدرسون الأولاد والأولياء يحفظون الدروس حرفامع الأطفال حرفا بحرف ولو امتحنوا لحققوا نتائج إيجابية.
الابتعاد في فنلندا عن المعرفة المعزولة واستبدالها بالتفكير الإبداعي والضمير الأخلاقي والمهارات التواصلية في المقابل نجد في الجزائر تقدم المعارف المعزولة وانعدام الإبداع والضمير الأخلاقي وفقدان التواصل واعتماد على الحشو ومبدأ بضاعتكم ردت إليكم بل مرات يتهم التلميذ المبدع أنه متمرد وقليل الأدب مما أدى إلى إنشاء قوالب نمطية تصنعها المدرسة وتمنع المدارس التفكير خارج الصندوق ولابد من الطاعة ورفض المناقشة وهي سياسة العبيد وصناعة العبيد في مدارسنا مدارسنا تتحكم في العقل وتمنع  الحرية الفكرية منذ الطفولة ولا تشجع الإبداع فالحرية مغتصبة في مدارسنا وتشجع الاستعباد تحت مبدإ الطاعة والأخلاق .
المدرسة الفنلندية ترى رسوب الطالب نوعا من الظلم الواقع عليه لأنه الوحيد الذي يتحمل فشل الإدارة والمناهج والمدرس الطالب يعيد السنة ويتأخر ويحبط ويلام بينما المنهج مصانا رغم عواره والمدرس محميا رغم التقصير عكس ما هو معمول به في مدارسنا التلميذ هو المسؤول على نتائجه وهو من يتحمل العواقب مما جعلنا نسمع عدة انتحارات للأطفال والهروب من المنازل بعد نهاية كل فصل وظهور النتائج كذلك إصابة العديد من الأطفال بالقلق والاكتئاب والعديد من الاضطرابات النفسية بسبب الجرم الذي يسلط على التلميذ بسبب ما يسمى الفشل الدراسي. 

كيف تستثمر البلدان وتطور مناهجها؟
إن عملية تطوير التعليم صارت مطلبا أساسيا ولا ينبغي التأخير والتهاون فيه وصارت حاجة ملحة اليوم قبل الغد للنهوض بالدولة وتطورها فلا وجود لتقدم ولا نمو اقتصادي واجتماعي وثقافي إلا بالتعلم وتطويره ولذلك يجب على الدول العربية أن تقضي على جراثيم التعليم جملة وتفصيلا والتخفيف من المنهج المثقل وتوفير فترات راحة للتلاميذ بعد كل ساعة أو 45 دقيقة عكس ماهو معمول به عندنا ففترة الراحة عشر دقائق مقابل ست ساعات تدريس..وهذا يسبب إرهاقا للتلميذ ونفورا من المدرسة وكثرة التسرب المدرسي جعل المدارس مكان يبعث الفرح والبهجة والتفاؤل وليس مكان للكآبة والإحباط بكثرة الاختبارات والواجبات والمقارنات بين التلاميذ ما يسبب لهم العداوة والنفور من بعضهم البعض وهذا لا يسهم في بناء شخصية سوية للطفل.
وعليه حان الأوان لإصدار وثيقة لإصلاح التعليم باتباع المعايير العالمية والتجربة الفنلندية.

..يُتبع..