الحضارة..أناقة فكرية !

الخميس, 30 ديسمبر 2021

الحضارة..أناقة فكرية !
مساهمة: عبد الباقي صلاي*
كلما قرأت عن الحضارات التي عاشت دهرا من الزمن أو التي ما تزال تنبض بالحياة يعيش في كنفها الكثير من الشعوب خاصة في أوروبا وأمريكا إلا ووجدت قاسما مشتركا جامعا بين كل هذه الحضارات ويتمثل بالأساس في الأخلاق العالية التي تعد قوام كل بناء حضاري وقوام كل منطلق نحو التطور والازدهار.
لكن هناك من المسلمين من يعتبرون الحضارة بكل صنوفها تختلف عما ألفه المسلمون خلال قرون من الزمن والذين ينطلقون من فلسفة خاصة لتعريف الحضارة.فعلى الرغم من أن الحضارة تعني في تعريفها الشامل التقدم والحياة الكريمة وكل ماله صلة بالصناعة وامتلاك الكون بيد أن الكثير من هؤلاء المسلمين ينظرون إلى الحضارة التي يؤمنون بها على أنها مجرد قيم ومبادئ إسلامية تُختزل في توحيد المسلمين تحت راية واحدة لا تقبل الطرف الآخر أن يشاركهم فيها إلا إذا كان من نِحلة الإسلام والمسلمين كما لا تقبل هذه الراية الواحدة أن تكون لها حضارة تتساوى مع حضارة الغرب المادي مهما كانت الظروف !.
فيكفي أن ينطلق هؤلاء المسلمون من التراث التاريخي ليحاربوا كل مظهر من مظاهر التمدن والحضارة كما يكفي منهم بعض المظاهر السلوكية وإن كانت غير مقنعة- حتى لا أقول منحرفة- حتى يحق لهم القول بأن الحضارة الغربية ليست حضارة حقيقية وحجتهم ربما فقط تدور حول الخمر ووالعري والعلاقات الجنسية بشكل عام.
الحضارة كل متكامل لا يقبل التجزئة كما يرفض التقسيط ومن يريد الحضارة عليه مدارستها وفهم كُنهها والخضوع لشروطها.وبما أن العلم هو ربما الجزء الظاهر للحضارة لكن نموذج الأناقة الفكرية هو الذي سيطغى على الحضارة وهو الذي يتحكم في ديمومتها من فنائها. فالعلم قد يبني حضارة في لمح البصر وقد يجعل الحياة سهلة رغيدة ويشيّد بروجا لا قاعدة لها تناطح السحاب كما يبني مصانع قوية وضخمة.لكن في غياب الأناقة الفكرية كل شيء قد يضيع ويفنى أيضا في لمح البصر !.
وكما تبدأ الحضارة بالأفكار والرؤى الصائبة فإنها تلازمها بالضرورة بعد ذلك الأناقة الجمالية التي تتولد كضرورة حتمية من الأناقة الفكرية.وبما أن الأفكار كما يقول مفكر العصر مالك بن نبي: بصفتها روح الأعمال-أي الأفكار- التي تعبر عنها أو تسير بوحيها إنما تتولد –هذه الأفكار- من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره.ومن كل ما يصدر من الصور المعنوية الخاصة ببناء الحضارة ورفع قواعدها تكون الأناقة الفكرية ويكون الذوق الجمالي في كل شيء.وبن نبي يعتبر أنه لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه.
ولهذا نجد عبر الكثير من الدول التي وصلت لقيمة حضارية رفيعة المستوى أنها رتبت أفكارها وكانت لها أناقة فكرية عالية.فكلما كانت لها أناقة فكرية عالية كلما تمكنت من الحفاظ وصون موروثها الحضاري. وكلما فقدت الأناقة الفكرية كلما فقدت بوصلتها في الحفاظ على وجودها ليس كحضارة ولكن كأمة.
هناك من يستهين بالسلوكيات اليومية التي يقوم بها المواطن ضمن حيز جغرافي في وطنه ويعتبرها لا تحمل ضررا على استمرارية وبقاء الحضارة.وهناك من يعتبر هذه السلوكيات إن لم يتم الحسم في التصدي لها سوف تكون وبالا على الحضارة وعلى بقاء الأمة. ولهذا يعتبر بن نبي أن الإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال الذي قد تميته سلوكيات أفراد في الشارع بل إن الجمال حسب بن نبي هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة فينبغي أن نلاحظ في نفوسنا وأن نتمثل في شوارعنا وبيوتنا مسحة الجمال نفسها التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي.ولن يدوم كل هذا إلا بأناقة فكرية تجعلنا جميعا نتجاوب مع قيم الحضارة ومع ديمومتها. 
لكن لو حاولنا خلق جدلية حضارية من يكون الأسبق التفكير الحضاري أم الأناقة الفكرية وماذا يعني كل منهما في حياة أي أمة. فربما سنضيع في متاهات التوصيف والبحث في آن معا.فالتفكير الحضاري حسب الإجماع هو النمط الذي يرتقي بالأفكار ليجعلها تخلق نماذج حية ورفيعة لحياة البشر.ولا يمكن لعقل تعايش مع فكر حضاري إلا أن يتفاعل مع كل ما يحيط به ليصنع النموذج الحضاري المناسب. فالصين لها من التفكير الحضاري ما جعلها تقود العالم في الصناعة الخارقة وأمريكا لها من التفكير الحضاري أيضا ما جعلها قائدة العالم والكون.أما الأناقة الفكرية فهي النمط التفكيري الذي يجب أن تكون عليه أي أمة لتستطيع أن تفهم معطيات حضارية ما ومسلمات حضارية ما.وتترجمها واقعا بين الناس ليكون التفاعل والانسجام.فلا يمكن أن تكون حضارة بأناقة فكرية وأصحابها يرمون فضلاتهم في الشارع ولا يمكن لأي شعب أن يتطور في معاشه دون أن يحوز على قدر كبير من الأناقة الفكرية.
ونسوق حادثة من تاريخ المسلمين حتى نتعرف أكثر عن تطور الأناقة الفكرية التي يجب أن تعيش وترقى في محيط متحضر وراقي.فالشاعر البدوي القريشي الذي وقف لأول مرة بين يدي الخليفة العباسي المتوكل مادحا لم تسعفه قريحته التي كانت تنقصها الأناقة الفكرية فعبر بتعبير يراه هو الأصلح والأفصح في جمع متحضر.فعندما يقول للخليفة: أنت كالكلب في حفظك للود..وكالتيس في قراع الخطوب.أنت كالدلو لا عدمناك دلواً..من كبار الدلا كبيرَ الذنوب.
فإن الشاعر كان يعبر عما يفكر فيه حسب بيئته وحسب ما كان يعيشه من خلال محيطه.الخليفة لم يشعر بشيء من القلق وفهم تركيبة الشاعر النفسية.فلم يغضب إنما أدرك بفطرة وبلاغة الشاعر ونبل مقصده وخشونة لفظه وتعبيره وإنه لملازمته البادية فقد أتى بهذه التشبيهات والصور والتراكيب. فما كان من الخليفة إلا أن يأمر للشاعر بدار جميلة على شاطئ دجلة لها بستان بديع يتخلله نسيم لطيف يغذي الروح بحيث يخرج الشاعر إلى محلات بغداد يُـطالع الناس ومظاهر مدينتهم وحضارتهم وترفهم ويُـقيم الشاعر علي ابن الجهم مدة من الزمن على هذه الحال والعلماء يتعهدون مجالسته ثم يستدعيه الخليفة 
فينشده الشاعر قصيدة جديدة لتكون المفاجأة قصيدة من أرق الشعر وأعذبه. يقول مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
لقد تغير مفهوم التفكير لدى الشاعر عندما خالط الحضارة وخالط الرقي الفكري فما كان عالقا في فكره انتهى بعدما عايش بيئة غير بيئته الأولى فتغير نحو الأفضل وارتقى فكره وامتلك أناقة فكرية عالية ترجمت في شعر جديد.وهكذا تكون الأناقة الفكرية وهكذا تبنى وفق نسق حضاري متميز.
* إعلامي ومخرج سينمائي وتلفزيوني