من الانفصامية إلى الفصام

  • PDF


من الانفصامية إلى الفصام


بقلم: المفكر التنموي إبراهيم تاج
Email : هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا﴾ (البقرة: 256)


عروة وثقى لا انفصام لها...
حلقة متماسكة صلبة كل ذرة فيها مرتبطة بالذرات المجاورة لها ارتباطا وثيقا.. إنها روابط متينة تلصق الجزء بالجزء فتجعل الكل عروة وثقى لا انفصام لها.. أي لا انبلاج فيها ولا انفلاج.. لا تفكك.. لا انشطار.. لا تحلل.. لا انكسار.. إنها وحدة متكاملة لا يعرف البداية فيها ولا النهاية يعرف الجزء بكونه جزء من الكل.. لا بكونه الأهم.. ولا يكونه أولا أو أخيرا.. (الاستفتاح بالآية الكريمة لا يعنى أن ما يليها تفسير لها وإنما هو تذكير).
وثقى موثوقة.. ميثاقا وتوثيقا.. حيث لا شك ولا ظن ولا تناقض ولا تيها ولا هواما.. هكذا هو الدين الحنيف.. من القوة والمتانة ما يجعله حبلا غليظا لا يفل ولا يفتل وحلقة متكاملة متوازنة منسجمة لا تقبل أي شكل من الانفصامية.. فالوعي يغوص في الباطن عميقا ثم يعود دون الوقوع فيه.. ليبقى ثابتا كجزيرة بحرية وشطآنا للنجاة.


ولكن ماذا تعني الانفصامية؟ 
أثناء الحرب العالمية الثانية وجدت فرنسا نفسها دولة مستعمرة ومستعمرة في نفس الوقت. أي فاعلا ومفعولا به لنفس الفعل هو فعل الاحتلال بالاستدمار.. وفي الوقت الذي كان فيه الجزائري يئن تحت ظلم الفرنسي كان هذا الأخير في الجهة المقابلة من البحر يطلقها نفس الأنات والآهات تحت قهر النازية.. وبهذا فقد أحس الشعب الفرنسي التناقض والانفصامية.. المظلوم والظالم.. الضحية والفريسة.. السجين والجلاد في قلب رجل واحد.. فقد ذاق القهر والغرور في نفس واحدة.. كان يضرب بالسياط بيده اليمنى ويتلقى على جنبه الأيسر لسعاتها المؤلمة.. فكيف كان ذلك الإحساس يا ترى؟
أنا لا أعرف كيف؟ ولكن ما أعرفه هو ثمن تلك الانفصامية.. كان ثمنا ثقيلا وفي اليوم الثامن من ماي عام 1945 قتلت الدولة الانفصامية 45 ألف مواطن جزائري بغير ذنب غير أنهم قالوا مقولة قالها الفرنسي ذاته أنا أتوق إلى الحرية .
وهكذا يتجلى التناقض في باحث عن الحرية عن طريق إلغاء حرية الآخرين.. وبهذا ندرك أن الحركات الاستعمارية ما هي في الحقيقة غير انفصامية جمعية مارستها الدول الامبريالية في حق شعوب مستضعفة.
انفصامية أخرى يرويها التاريخ.. روايتها أن إمبراطورا أحب روما حد الجنون ولأنه أرادها أن تكون كلها له بدورها وناسها.. استعبد البشر وحرّق المدينة التي أرادها ألا تكون لأحد من بعده مهما على الثمن وللجريمة بشاعتها.. نفس الارادة تجلت في صورة عشيقته فسقاها حبا وسما.. ثم انتحر ليموت نيرون وتبقى النيرونية كظاهرة انفصامية تعيد نفسها في ذروة كل مدينة مادية.
هذه هي الرواية أما الدراية فبحث في أغوار النفس في الطبيعة البشرية وتساؤل يأبى إلا أن يطرح في ساحة السؤال الملح.. هل الإنسان كائن انفصامي بطبعه؟
من الناحية الانتربولوجية أثبت أعلى وأنمى تجمع انساني عرفه التاريخ مجتمع القرية الصغيرة أنه الأكثر انفصامية على الإطلاق.. وسنرى ذلك في مسرد الكتابة.


02
 الفصام أو الشيزوفرينيا...
مرض بألف وجه بألف قناع.. بأكثر من سبب أو عامل مسبب.. بأكثر من طريقة يجب اجتماعها كلها لتحقق ما يشبه الشفاء.. حالة ذات تاريخ طويل.
حياة بتاريخين للميلاد.. الأولى عند صرخة الوضع والثانية عند صيحة الهلع الفصامي.. دوي رعد في سماء صافية كما يصفها ماجنان.. وهذا ما يبدو للملاحظ.. ولكن الحقيقة أن الميلاد الثاني قد سبقته زمنيا حياة جنينية تشترك مع حياة الرحم في كونها صناعة لخلق آخر وفي كونهما منعزل فردي حيث يسمع ولا يدري حيث ينفعل ولا يفعل.
و يختلفان في أن الأولى ميلاد لكائن يتعلم.. أما الثانية فميلاد لكائن ولد ليعلم الآخرين.. قوانين منطق جديد وعقلانية خاصة وإن كانت غير معقولة.
الفصام.. مرحلة من مراحل الحياة الإنسانية تشترك مع المراهقة في كونها مرحلة للنمو وتشترك مع العبقرية في كونها تحرير للعقل وتشترك مع الزهد لأنها تحلل من كل قناع ومتعة.. تشترك مع الرياضيات في تجريديتها ولرؤيتها الهندسية للأشياء.. ومع الفن هي إبداعات متفجرة وأحلام الشاردين على بساط الريح.. وتتلخص في مسرى التاريخ البشري المجمل في قول ذلك الحكيم الهندي عاشوا وتعذبوا وماتوا .


03
الفصامي ذلك المظلوم...
و في عالم مشوش غريب ذائب الحركة يعاني التصدع والتمزق إربا إربا.. وبدل أن ترم الآراب إلى بعضها بتضميد الجراح نواجه المريض بأن نسميه شيطانا أحيانا ولسكنه رغما عنه كل الأرواح الشريرة.. وكل لعنات الناس.
ولنسكنه الزنزانات الموحشة لنعالجه بالحديد بين قدميه ويديه وحول عنقه لنجره في شوارع المدن المظلمة بالسياط وسياط البرد ولسعات الرطوبة وجفاف ألسنة المنادين بإحراق ساحر أو مشعوذ لا يملك من تعاويذه غير هلوساته وأوهامه.وحيث أحلى عذاب ممكن.. منفى إلى حيث لا أحد.
ثم نلومه لما هو يحدث نفسه؟ لما هو يتسامر ويضحك مع ظله الرث كثيابه البالية.. ثم ندعي أننا نداويه فنلفه في الفوط.. الفوط المبللة أو نغرقه في أحواض المياه.. لنعيده إلى حيث البدء إلى رحمة رحم الأم.. أو إلى رحمة الموت رحم الأم الكبرى.. هكذا كان يعامل في عصر الظلمات.
ومن زمن الحضارة الاسلامية في أحضان بيمارستاناتها – أذكر بيمارستان النوري خاصة – لم يذق الفصامي طعم الراحة حتى ظهور الرومنسية.. حتى ظهور بؤساء هيجو ليتسامى الفنان الفرنسي حيريكو (القرن 19) بحسه ورأفته في رسم بورتريهات المجانين.. ليخفى فان جوج ما تبقى من أذنه وراء شاش أبيض عله يضمض آخر جراح الفصامي لينطلق عصر جديد لظهور المستشفيات التي تقبله نزيلا عندها.
ومن العلاج بالكهرباء (1930) إلى الجراحة النفسية (و الدوف فيمان) إلى العلاج الكيميائي (1942) إلى العلاج بالعمل إلى مراكز الحياة التدعيمية.. ومن وصمة العار المتلصقة به بأنه لعنة السماء وأنه سبب الذنب وأنه تدهور لا يقبل في التطويرية الداروينية.. ينتقل الفكر الانساني في القرن العشرين إلى إدراك أنه مجرد كبش فداء وضحية لمجتمع فاسد وأسرة غير متوازنة.. وأنه أي الفصام لا يعدو كونه مرض اجتماعي على الأقل من حيث منشئه (سيرالا) بأعراض نفسية.. لتتشكل الجمعيات المحلية والدولية ضد وصم الفصامي ( لترفع كلمة – مهبول- من قاموس اللغة دالا ومدلولا ).. مرض كنا نحن السبب فيه إلى جانب الكثير من العوامل المسببة منها الوراثي والتربوي والكيموبيولوجي كذلك الشرياني وحتى من قال الفيروسي أيضا... تعددت الأسباب فتعددت أساليب العلاج.


أبدا لا وجود له ذلك المجنون الممتع الفهلوي... فكل جنون هو آلام متعددة متنوعة متجمعة متراصة في ضمن واحدة لكنها للأسف عنوان الجرح العميق البالغ .. وكما أن الفن والعلم هما المهربان اللذان اخترعهما الإنسان ( أينشتين ) فإن الفصام رحمة إلهية للهروب من وضعية كارثية أليمة إلى استبصار ما أقل ألما.. إنها وضعية مريحة طبعا ليست لنا ولكن لذلك الذي كان ينام ولا ينام.. وعلى السرير سرير من شوك إخفاقاته المتكررة في الحياة ليتلقى ضربات الضغوط دون أن يملك حلا للخلاص. 


04
ومن هنري ميشو إلى روبار شومان.. ومن الرسام إلى الموسيقار تستمر محاولات الفصامي الذي يحاول البحث عن حل للتخلص من المرض والجسد معا.. وفي أحد الأيام تصارعت الأحاسيس بين موسيقى سمفونية بديعة عنوانها الربيع وخنجر خيانة زوجية.. لتنتصر الأخيرة جسدا مرميا في نهر الراين... ليفشل تارة أخرى حتى في محاولاته هذه لينقذه بعض الصيادين.. لينقلوه من موت الأجل إلى موت هو قبل موت الأجل حين يقبر الأمل.
ومحاولات ومحاولات متكررة وكم كانت كثيرة.. لتنجح كثيرا أيضا ولكن هذه المرة.. مع شاعر ترك بهجته جانبا بعد موت أمه ( الأم والشعب والذاكرة ) فاجعة قتلت الثلاثة في شخص واحد فعاش بول سلون بال حياة ليترك آخر كلماته المعبرة أحيانا يذهب العبقري في الظلام ليذوق طعم قلبه المر .


حياة ثانية قد صنعها الأمل.. وعبقرية جديدة تولدت لذهن وقاد يعرف يداعب الأرقام ومعادلات الجبر بين الرياضيات وعلم الاقتصاد.. لتتوجه البطولة بجائزة نوبل لرجل يستحق كل الإعجاب.. لأنه استطاع أن يتغلب على المرض.. أن يتحايل عليه إنه جون ناش.. لتتوجه هوليود أيضا بفيلم رائع لعقل مبدع بعنوان جميل.


05
تلك هي أيضا رسالة الفصامي...
تلك هي أيضا حكمته خذ الحكمة من أفواه المجانين لا تنافسوه في حكمته.. لأنكم لن تستطيعوا معه صبرا.. وكيف ستصبرون وحكمته تكمن في كونه الإنسان الوحيد الذي أحس بأعلى درجة العذاب النفسي ولو أحس بها غيره لكان فصاميا آخر.
حكيم وطيب أيضا لا تقلدوه.. وإن كان من أحكم الناس.. فلكونه فكر في الطبيعة البشرية أكثر مما نتصور.. وهو حكيم ولو لم يعرف كيف يتحدث عن حكمته ولكنها تبقى حكمة متطرفة ولو أصابت.
هو حكيم.. ولكنه لا يحتاج إلى تصفيق ولا إلى تدوين لما يقول.. حاجته الوحيدة إلى يد حانية تشبه كثيرا يد الأم الحنون.. يد الأم الحنون.