تكييف مناهج التربية والتعليم لتقوية القيّم الحضارية للأمة

  • PDF

مراصد ثقافية
إعداد: جمال بوزيان

أخبار اليوم ترصد آراء حول إصلاح المجتمع :
تكييف مناهج التربية والتعليم لتقوية القيّم الحضارية للأمة

تزداد الأخطار والأزمات والمشكلات في جل المجتمعات لسبب أو لعدة أسباب وساعد في ذلك عامل أو عدة عوامل.. سألنا أساتذة عن شروط الإصلاح ومناهجه وأولوياته إن نرد تغييرا إيجابيا في المجتمع.
هل كل ما في المجتمع يحتاج إصلاحات؟ وهل يبدأ من الأسرة أم المدرسة أم المسجد أم وسائل الإعلام والصحافة أم المؤسسات الثقافية والفنية أم من جميعها وغيرها؟ وما أولويات الإصلاح؟ وما المناهج الناجحة التي تثمر بناء مجتمع واع راشد قادر على المشاركة في الحضارة الإنسانية؟.

أ‌. م. رابح لكحل:
وجوب الرفع من كفاءات المجتمع وقدراته وفق التقنيات والعلوم الحديثة
تحرير مؤسسات التنشئة للتوعية والرقابة ومحاربة الآفاتالاجتماعية
إعداد المجتمع وإعادته إلى الاهتمام بقضايا الشأن العام

إن وجود المشكلات والأزمات في حياة الفرد كما المجتمع هي من طبيعة السير في هذا الوجود والاختلاف بيننا والآخر هو في كيفية تكييف المشكلة وفي كيفية معالجتها.. فإذا كان على مستوى الأفراد التعامل مع المشكلات والأزمات يعتمد بنسبة كبيرة على شخصية الفرد وظروفه فإن مواجهة الأزمات ومعالجة المشكلات يكون أكثر تعقيدا على مستوى المجتمعات وخاصة التي لم تُحضر جيدا لذلك..فبنظرة على السريع نجد أن الفرق الجوهري بين المجتمعات القوية والمجتمعات الضعيفة أن الأولى: 
- تبادر إلى معالجة ما يظهر من مشكلات مهما كانت طبيعتها في أقل وقت وبأقل الأضرار والتكاليف.
- هذا يسمح لها هذا بتركيز كل طاقاتها على معركة البناء والتنمية.
-وبهذا المنطق تجدها مجتمعات حية تنتقل من حل مشكلة إلى أخرى بسلاسة ويسر.
- وينتج عن ذلك التراكم المطلوب لإحداث النهضات.
في المقابل نجد الضعيفة: 
- تتوارث أجيالها المشكلات والأزمات كما تتوارث الأشياء والممتلكات.
- وتحت تأثير طول المدة تتحول مشكلاتها البسيطة إلى معضلات.
- تمتاز بضعف مبادراتها (أو لنقل انعدامها..) لمواجهة ما يهددها من أخطار.
-في الغالب تكتفي بالبحث عن ماضي نَيّر تهرب إليه وتُسّكن به آلامها ومآسيها العاجزة عن معالجتها أو تجاوزها.
والحقيقة العجز عن حل مشكلاتنا والتخفيف من أعباء أزماتنا أسبابه مركبة وعميقة في غالبها وتحديدها خطوة مهمة في عملية الإصلاح وإعادة توجيه الدفة وفي سعينا الصادق لتفعيل عمليات المعالجة نغرق في مناقشات وجدالات تبعدنا عن جوهر العملية نلخص أهمها في:

1- الاستغراق في التساؤل: هل نحتاج إصلاحا أم تغييرا؟
شخصيا لاأرى فرقا جوهريا بين المصطلحين على اعتبار أنهما أاستعملا قرآنيا في سياق السعي نحو تغيير الأفراد ومن ثّم إصلاح المجتمعات: (..إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم ...) [سورة الرعد الآية رقم11] (..إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ..) [سورة هود الآية رقم 88]) والعبرة في نتائج السعي وليس في الاكتفاء والتوقف عند تفسير المصطلحات ومهما قلنا عن مجتمعنا فمن المؤكد تميزه بإيجابيات وجب تثمينها مقابل سلبيات من الضروري تحديد أسبابها والسعي لمعالجتها والقضاء عليها.. فليس من الحكمة اعتبار كل شيء في المجتمع سيئا ويجب تغييره تماما أو لنقل استبداله وهي المقاربة التي يبني عليها المنهزمون حضاريا(مُدَّعو التنوير الزائف) وصفتهم لإصلاح المجتمع التي محورها الأساس الدعوة إلى الاندماج في الآخر والتحْميل الساذج لعجزنا وفشلنا لقيم المجتمع ومعتقداته.

2- الاستغراق في التساؤل عن طبيعة (الشكل المدة المجال..) لعملية الإصلاح: 
في المجتمعات المتحضرة عملية الإصلاح وتصحيح الوجهة عملية دائمة ومستمرة وكما أشرت فهي ميزة أساسية تمتازبها الأمم والمجتمعات الحية القوية بخلاف ما يحدث عندنا أين تُعَدُّ عملية موسمية أو لنقل مناسباتية تخضع لأهواء الساسة وأمزجتهم.. فكثيرا مانسمع عن لجان إصلاح مهمتها وضع مشاريع لقطاع أو وظيفة مجتمعية مصيرية تنتهي إلى لاشيء..بينما الأصل عندالعقلاء أن عملية النقد الذاتي وإعادة التوجيه تنطلق آليا مع بداية تطبيق أي مشروع فملاحظة بشرية كاملة ولا مشروع إنساني مثالي.


3- الاستغراق في التساؤل من أين نبدأ؟
مع تعقد الحياة المعاصرة وتشعبها أصبحت وظائف ومهام المجتمع مركبة ومتداخلة بحيث يصعب فرز إحداها عن الأخرى ولا يمكن معالجة إحداها منفردا دون البقية فالكل يُؤثر ويتأثر بالآخر.. وبالرغم من ذلك فإن المنطق السليم يقر بألّا إصلاح في المجتمع إلا بإصلاح التعليم على اعتبار المدرسة هي المؤسسة الأم المسؤولة عن تكوين وتخريج العامل الأول في معادلة التنمية ألا وهو الإنسان المؤهل فبدون مواطن قوي وأمين لايمكن للمجتمع أن ينجح في أي وظيفة مهما وفرنا لها من إمكانات مادية وخطط علمية متطورة.
فإذا أعطينا النشء الاهتمام اللازم والعناية المطلوبة في مرحلة التعليم نكون بذلك قد وضعنا أساسا قويا للبناء وما على مؤسسات التنشئة الأخرى إلا إتمام لواحقه وزينته.. فالأسرة المسجد ومختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية مطالبة بمرافقة المدرسة وإكمال الناقص من عملها بحيث:
-تتكفل الأسرة مع المؤسسة المسجديةبإتمام وتقوية جانب الأخلاق والأمانة عند الفرد لما للأسرة والدين من تأثير مباشر على معتقدات الناس وقناعاتهم كما يضمنان مرافقة الفرد وحمايته من الانحراف والزلل
-كما تتكفل المؤسسات الإعلامية والثقافية بمختلف أشكالها في تقوية مناعة الأفراد وتعمل على الرفع من مستوى وعيهم بطبيعة التحديات والعقبات التي تواجههم أو تحيط بوطنهم.


4- الإصلاح الذي نرومه: المجتمع الحي هو الوحيد المؤهل لرفع التحدي ومنافسة غيره في بناء الحضارة الإنسانية فالتجربة البشرية بينت أن المجتمعات المؤهلة للرقي والتحضر هي مجتمعات واعية راشدة مسؤولة تدرك ما عليها من واجبات قبل بحثها على مالها من حقوق..ولن يتسنى لنا الحصول على مجتمع بهذه المواصفات إلا إذا:
-كيفنا مناهجنا التعليمية والتربوية بما يقوي قيم المجتمع ومعتقداته لدى الفرد من جهة وبما يرفع من كفاءاته وقدراته وفق التقنيات والعلوم الحديثة من جهة ثانية.
-حررنا إرادة الفرد وحمّلناه مسؤولياته كاملة بعيدا عن كل وصاية أو مصادرة.
-أعدنا النظر في مفهومنا للعمل السياسي وتمكنا من استقطاب الناس وأعدناهم للاهتمام بقضايا الشأن العام.
- حررنا مؤسسات التنشئة بما يسمح لها بلعب دورها في التوعية الرقابة وفي محاربة الآفات والظواهر الاجتماعية المتوارثة أو المستجدة.




******
أ‌. د. ربيعة برباق:
المجتمع يحتاج تربية أخلاقية وتنمية شاملة


لن تفيدنا الفنون ونحن نجهل المعاملة والمحبة.. ولن تفيدنا العلوم ونحن نحفظ منها ما وافق أهواءنا


مسؤولية الإصلاح تقع على عاتق المجتمع كله


وجوب المبادرة بالأفكار والمشاريع واستغلال الثروة البشرية


كثر الحديث عن الإصلاحات في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في وقت تعاني فيه المجتمعات البشرية وينسب متفاوتة فسادا في كل القطاعات وبجميع المستويات. 
وقبل الحديث عن رأيي في سبل الإصلاح ومناهجه وشروطه أود التنبيه إلى أن التاريخ الطويل للبشر يروي قصصا كثيرة في صراع قوى الفساد وتيارات الإصلاح..وقد وصل ذروته مع الأنبياء والمرسلين وكثير ممن أطلق عليهم اسم المصلحين صراع اتخذ طابعا دينيا تارة يرى أن الفساد يبدأ من فساد العقيدة وأن العقيدة الصحيحة هي الوجه والضابط للأخلاق الإنسانية لكن الصراع ما يزال بين مد وجزر يحتد ويتراجع وفقا للسياقات الفكرية المختلفة واتخذت طابعا سياسيا يظهر على شكل صراعات حزبية أو أيديولوجية وغيرها منها ما يرى أن ضبط الأخلاق ضمن مجتمعات متعددة المذاهب والمشارب والثقافات لا يتأتى إلا بالتربية السليمة المبنية على الأسس المشتركة للمواطنة والعدالة الاجتماعية في ظل الاختلافات الموجودة لأجل تفادي الصراعات المذهبية والعصبية بكل أنواعها وتجنب كل أنواع الاضطرابات التي تهدد الاستقرار وبالتالي بناء مجتمع متوازن ومستقر قادر على البناء والتنمية والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية.
وهذا في نظري يبدأ من الأسرة كونها الخلية الأولى للمجتمع وإصلاحه يبدأ من إصلاحها. 
فبناءُ المجتمعِ يبدأ ببناء الإنسان وبناء الإنسان يبدأ من زرع القيم الأخلاقية في الفطرة السليمة والبيئة الخصبة زرعا يثمر إقامةَ علاقات متينة بينَ أفرادِ المجتمع ثمّ بينَ أفرادِهِ ومؤسّساتِهِ ثمّ بينَ مؤسّساتِهِ وأفرادِهِ بدءًا بالمؤسّسةِ الصّغرىٰ وهي الأسرةُ وانتهاءً بالمؤسّسة الكبرىٰ وهي الدّولةُ بالمفهومِ الإداريّ أو الوطنِ بالمفهومِ الاجتماعيِّ. 
يبدأُ بناءُ المجتمعِ من بناءِ الإنسانِ إنسانٌ مشبَعٌ بالقيمِ الاجتماعيّةِ الّتي تكفلُ له الشعورَ القويَّ بالانتماءِ إلىٰهٰذا المجتمع في رقعته الضيقة البيت فالحي فالمدرسة اتساعا نحو الحدود الجغرافية للوطن الكبير وبالتالي الشعورُ بالمسؤوليّةِ اتجاهَهُ شعورا يغلّب المصلحة العامّة علىٰ المصلحة الخاصّة وعيا وإدراكا منه بأن تتحقق المصلحة العامة يستلزم بالضرورة تحقق المصلحة الخاصة. والعكس غير صحيح إطلاقا. 
وحين تتشكل لدى الفرد هذه القناعة سيفكر في أداء واجباتِهِ نحو مجتمعه قبل التفكير المطالبة بحقوقه بل ويتولد في وعيه إدراك ويقين بأن حصول الفرد على حقوقه مرهون كليا وبأداء الأفراد الآخرين لواجباتهم نحوه ونحو المحيط الذي يجمعهم. 
ولكي نخلقَ لدىٰ الفردِ هٰذا النوعَ من الشّعورِ يجبُ أنْ نمنحَهُ حقوقَهُ كإنسان أوّلًا ومنذ نعومة أظفاره والمسؤولية هنا تقع على الجميع أولهم الأولياء وأبدا منهم دائما لأني على قناعة تامة أنه لا أحد أحرص على حقوق الإنسان من والديه وولي أمره وأشير هنا إلى نقطة مهمة جدا ألا وهي ضرورة امتداد المرافقة المستمرة للفرد من طرف الأولياء مرافقة ذكية واعية من البيت إلى خارجه في المدرسة وفي الحياة العامة. 
ولا أقصد بالمرافقة هنا المراقبة العينية فحسب بل أقصد ذلك الفعل الواعي الذي يجعل الفرد في كل مراحله العمرية يندمج بإيجابية وتجانس وسلاسة مع بقية أفراد المجتمع في أي مكان يكون فيه.
وأشيد كذلك بالجمعيات المدنية التي تقوم بدور كبير في كثير من المجتمعات المتطورة مثل جمعية أولياء التلاميذ. الجمعيات ذات الأهداف الاجتماعية النبيلة التي تنظر إلى المدرسة وإلى مختلف المؤسسات نظرتها إلى بيتها: ترممها تنظفها تؤثثها بل وتكفل مختلف احتياجاتها إن اقتضت الضرورة وتسهم إيجابيا في حل مشكلاتها وخلق جو أخوي داخلها. 
وتميز بين موقفها من المسؤول وسياسته وبين واجبها وواجب المواطن نحو محيطه ووطنه. وتعمل بمبدأ المدرسة مدرستنا والمؤسسة مؤسساتنا (يتغير المسؤول ويبقى الوطن). 
من هنا يبدأ الإنسان ببرمجة المواطن الصالح المواطن الفعال المواطن الإيجابي الذي يقدم العلاج ويقترح الحلول والطرائق والمناهج.. وغير ذلك من الجزئيات التي أراها خطوة بسيطة جدا وسهلة إن سبقت بما ذكرت من الخطوات وستفقد نجاعتها إن لم تسبق بها. بكل المناهج عقيمة في بيئة خالية من القيم والأخلاق العامة لأنها تتعلق بمرحلة تالية وبجانب صغير جدا من بناء الإنسان إذ تقتصر على تلقينه المعرفة العلمية وهي معرفة يمكن الحصول عليها بطرق وسبل مختلفة صارت -لحسن الحظ في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية- متوفرة وبكثرة ومتنوعة تنوع الفروقات الفردية.
وفي عصر تعددت فيه نظريات التعلم والتربية وعلم النفس وعلم الاجتماع.. وغير ذلك وبقي على الولي والمعلم والمسؤول حسن التوظيف والاختيار وجدية العمل والتطبيق. ليكون قدوة وأنموذجا يحتذى به فكلما كان قدوة سهل التبليغ ووصلت الرسالة. 
فعلينا جميعا تقع مسؤولية الإصلاح علينا أن نتعلم كيف نبادر بالملموس من المشاريع والأفكار علينا أن نتعلم كيف نمنح الوطن كي يمنحنا ولا نكتفي بالمطالبة والاعتصام والصراخ والسب والشتم وإشهار النقائص والتشهير بعوراته بل علينا أن نشارك في خياطة ثوب جميل يليق بوجهه الجميل. 
بهذه الطريقة فقط نستطيع تجاوز صراعاتنا التافهة أو الطبيعية لننشغل بالبناء والتشييد لأن البناء يبدأ باستغلال الثّروةُ البشريّةُ الّتي تُنمّىٰ بالتربية أولا ثم التربية ثانيا ثم التربية ثالثا ثم يأتي العلمِ والتعليمِ ونتجاوز سطحية التفكير وسطحية الطرح إلى عمق الوعي فلن تفيدنا مادة التربية الإسلامية ونحن خارج وعاء الإنسانية ولا شعبة العلوم الشرعية ونحن خارج وعاء مقاصد الشريعة ولن تفيدنا الفنون ونحن نجهل فن المعاملة وفن المحبة ولن تفيدنا العلوم ونحن نحفظ منها ما وافق أهواءنا وعصبيتنا الجاهلية. 
فتحضّرُ المجتمعِ يحتاج تربية أخلاقية وتنمية شاملة تبدأ من التسليم بفكرة: التغيير يبدأ من الذات والتخلص من عقدة الخوف من الاعتراف بالمسؤولية ورميها على الآخر (المعلم المسؤول الوزير..) وإن شاركونا المسؤولية ونتعلم كيف نبحث عن أسباب الفشل قريبا منا كي نجدها فنتجاوزها؟.


..يُتبع..