من العزو إلى العزم

  • PDF

من العزو إلى العزم
بقلم: المفكر التنموي إبراهيم تاج

دعوني أبدأ من النهاية وأصرح بالعبارة الواضحة: النهضة الحقيقية هي رحلة الانتقال من العزو إلى العزم .. طبعا في داخل كل واحد فينا.. ولكن كيف؟
هذا ما سنحاول شرحه في هذا المقال.. بدء من تفكيكه أولا ومن بعد ذلك نحاول تركيبه بما يناسب خصوصية حضارتنا نحن.

نظرية العزو...
عندما فاز لاعب كرة القدم الجزائري الأصل كريم بن زيمة بجائزة الكرة الذهبية فرح كثير من العرب والجزائريين بهذا الحدث – رغم أني أعتبر كرة القدم تافهة بالأساس ولا تستحق كل هذا الإهتمام -.. وفي مواقع التواصل الاجتماعي علق كثير منهم لو كان يعيش في بلده الأصلي فهو لا ولن يحقق هذا الإنجاز وقال آخر كثير من اللاعبين المحليين كان بإمكانهم تحقيق انجازات أكبر لو كانوا من ساكنة أوروبا .. وكما لاحظت في أغلب التعليقات أن الناس تقوم بإسناد أو عزو سبب الإنجاز أو النجاح لعوامل خارج كفاءة اللاعب وحينها يتناسون المجهودات والقدرات التي تخطى بها كريم بن زيمة أزماته السابقة وكيف تحول من لاعب كثير الأخطاء إلى لاعب فعال ومصيري في فريقه.

هذا التوجه في التفسير هو ما يجعلنا نتغير بل ونتبدل.. عندما كنا طلابا كنا نرى أن كل تقصير فينا هو بسبب النقل أو سوء الخدمات الجامعية أو صرامة الأساتذة الجامعيين وعندما جربنا موقع الأستاذ صرنا نلقي اللوم على الطلبة وميلهم للكسل وقلة العمل.. نفس الشيء يحدث بين الموظف والمدير.. ونفس الشيء حين يتعلق الأمر بنا وحين يتعلق بغيرنا فإذا جاء التقصير بنا قلنا لأسباب خارج نطاقنا أو لأسباب قاهرة وعادة ما تكون خارجية مثل عزو – إسناد – سبب التأخر للنقل الجماعي أو عطل طارئ في السيارة.. وعندما يتعلق الأمر بموظف آخر نقول الاحترافية في العمل قبل كل سبب شخصي وغيرها من التبريرات الصحيحة فعلا.. نعم هي صحيحة وضرورية ولازمة ولكن لماذا لا نقول نفس المقال عندما يتعلق الأمر بأنفسنا.. إذا هو نوع من التطفيف في الحكم وكيل بمكيالين.


في الحياة الاجتماعية نرى هذا التباين في التحيز في الصراع الأبدي بين الحماة وزوجة الابن.. فهي عادة ليس لها نفس الموقف إذا تعلق الأمر بابنتها وعلاقتها مع زوجها فعادة الأم تجد التبريرات الإيجابية فقط لصالح بنتها أو ابنها.. هذا التحيز الذي نعتبره هين هو ظلم عظيم هذا التحيز نحو أنفسنا وعلاقاتنا هو ما يجعلنا لا نتقدم في ميزان الحضارة.. وهذا الكلام مهم جدا لأن هذه العمليات الذهنية الدقيقة والعميقة هي ما تجعلنا نرضى بما نحن فيه ولا نحاول التغيير.


نظرية العزو attribution theory التي جاءت من علم النفس الاجتماعي مع العالم الإدراكي فريتز هايدر Fritz Heider والتي عمل على إثباتها أستاذ علم النفس هارولد كيلي Harold Kelley.. هذا الأخير الذي كان تلميذا للجشطالتي الشهير كارت لوين Kurt Lewin صاحب نظرية المجال النفسي وبالتالي فهذه النظرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإدراك – إدراك ذاتي إجتماعي - يعني أن كيفية عزو الناس للسببية هي مسألة إدراكية بحثة.. وبالتالي دوافعنا واختياراتنا وطريقة اتخاذنا لقراراتنا رهينة إدراكاتنا وكذلك الكفاءة والإنجاز ومعهما الفشل والنجاح.
و هذا ما عمل عليه برنارد واينر Bernard Weiner في الإطار التربوي.. لتصبح من أهم نظريات الدوافع حيث يرى واينر أن الإسناد قد يكون سببا في الأداء الممتاز والقدرات العالية وكذلك الموهبة.. إن كيفية استخدام المدرك الإجتماعي لصناعة تفسيرات سببية لما يحدث هو العزو فالقدرة الفعالة تكمن في إدراك الذات وإدراك الآخر كوحدة واحدة.


02
من العزو إلى العزم...
طريقة إسنادنا هو ما يجعل بعضنا يقع في العجز والبعض الآخر يتطلع للعزم.. كثير منا درس العزم في مادة الفيزياء – عزم الدوران – وهو القوة في طول الذراع هذا المفهوم يجد دلالته الخالصة في موضوع المحركات التي هي القلب النابض للآليات: كالسيارات مثلا.. فكلما كان عزم المحرك ذا قيمة كان أداء السيارة عاليا على الطريق.. فإذا كانت قوة المحركات في السيارات تأتي من احتراق الوقود الدافع للمكابس فمن أين تأتي القوة المحركة للناس؟ ما هو الدافع؟ ما الذي يجعل الإنسان لا يرضى بحاله الحالي ويريد أن يتغير؟ ما الذي يجعل جماعة من الناس تتحول معا في هجرة جماعية نحو غذ أفضل؟ 
إن الشخص الضعيف يبحث دائما عن تقدير الذات ليمتطيها سلما نحو الرضا.. ثم هو يرضيها فلا يجرحها ليقع في مرض صورة الذات .. حسب العلامة فريتز بارلز Fritz Perls صاحب طريقة العلاج الجشطالتي – علم نفس الوعي – فإنّ صورة الذات هي حالة أولئك الذين لا يتعلمون من بيئاتهم فيجعلون نقطة التماس بين الذات والآخر جدارا عازلا وغشاء معتما.. فهم لا يستفيدون من تجاربهم مقولتهم في ذلك أنا أعرف كل شيء أنا دائما على صواب .. هؤلاء يعطلون منظومة التعلم التي تتحقق بتعاشق منظومتي الاتصال الداخلي والخارجي كالتروس كما يشرحها أرون بيك.
إن القابلية للتعلم والدافعية للإنجاز متعلقتان بالإسناد الصحيح.. حين أرى عيوبي ومحاسن غيري حين أتحرر من التبرير كدفاع نفسي وأتقبل ضعفي بأني تلميذ مدى الحياة.. حين أفرح كون الآخر أحسن مني ويمنحني فرصة التعلم منه. 
و لذلك أول الطريق هو الاعتراف.. بأننا ضعاف وأننا دون المستوى وأننا لولا رحمة الله بنا لضعنا والحمد لله أن هدانا فبصرنا بعيوبنا.
كشعوب إسلامية نحن عالم ثالث فقير جاهل كنا نقول وهما أننا في طريق النمو لنكتشف أننا سنة بعد سنة نزداد انحرافا على متوسط السواء ونتدهور عاما بعد عام في معدلات النماء.. ولا بد أن نتعلم.
كلنا فجوات بيوتنا خربة.. ولا بد لنا من حل يضمن لنا البقاء – في صراع الأمم والحضارات –
نحن لا نحتاج إلى سياسيين يرضون غرور أنفسنا بالكلام المعسول والوعود الخيالية.. فلنتعلم أن نحترم أولئك الصادقين الذين يقولون لنا الحقائق كما هي.. لندرك أنه لا خيار لنا غير العمل.. والعمل كله خير فقط نحتاج إلى قادة تغيير أولي عزم وبصيرة.


03
جوهر القيادة: معرفة السبب والنتيجة 
كثير من الناس يقعون ضحية الإسناد الخاطئ فيفقدون القدرة على تمييز الأداء الجيد من الأداء السيئ.. بل قد يضلل بهم.
في المنظومات السبب والنتيجة يتعاقبان في دوائر.. دوائر لا تنتهي بلا بداية ولا نهاية.. والتحكم فيها أو توجيهها نحو النمو يستلزم ذكاء وفطنة.. يكمن الذكاء في إذكاء الدافع للحركة في إيجاد الحاجات التي لا تشبع للتعلم المتواصل.. وتكمن الفطنة في محاربة مرض صورة الذات والتي تظهر على شكل شعارات التفوق والفوقية.. فنحن لسنا شعب الله المختار وجنسنا ليس خيرا من أي جنس آخر.. فلا نقع في وهم المجتمعات الزيتية التي تتعالى على الآخرين بسبب أو من غير سبب.
إن الانفتاح على الأمم والحضارات والتعلم من مجالات تفوقها عن طريق تكنولوجيا نقل المعرفة كالترجمة والابتعاث واستيراد المنتجات الذكية ومنح فرص الاستثمار واستجلاب الخبراء وغيرها من أساليب جلب المعرفة والتعلم الأممي... لهو الطريق الأقرب للنهوض.