التناغم المجتمعي في خدمة الحضارة!

  • PDF

بقلم: عبد الباقي صلاي
لطالما طٌرح التساؤل التالي على المشتغلين في مجال الفكر والحضارة من يكون في خدمة الآخر هل المجتمع يكون في خدمة الحضارة أم الحضارة هي التي تكون في خدمة المجتمع.وقد تتنوع الإجابات حسب تنوع الأفكار التي تسيطر على المجتمع مع اختلاف التنوع الديني الذي قد يدخل كطرف ثالث في معادلة فلسفة الحضارة والمجتمع.
لكن قد يُفصل في الأمر وما تعلق بعلاقة المجتمع بالحضارة عندما نتعرف على المجتمع عن كثب وعن تركيبته المعرفية التي تستوجب محطات علمية يأخذ بها هذا المجتمع ليقف عند تفسير الكثير من المصطلحات المبهمة التي تدور في المحيط الحضاري.لأنه لا يمكن البتة لمجتمع مجرد من العلم متخلف عن سيرورة القوانين الطبيعية التي تسير الواقع المعرفي أن يدرك كنه ما يريده ومن ثمة كنه الحضارة التي تختلف مفاهيمها ومداليلها من مجتمع لآخر.
وربما لاحظ المفكرون والمهتمون بفصول تفسير الحضارة كيف أن مجتمعا يعيش التيه الثقافي ويعيش الفوضى الفكرية ويعتاش على فضلات الموروث الثقافي الذي ألفه لقرون خلت أن يجابه القوة الحضارية التي وصلت إليها الكثير من المجتمعات.فالفوضى الخلاقة بمفهوم مجتمعي وليس سياسي أو دولي هي التي تتحكم في المجتمع الخارج عن دائرة المعرفة الذي ما يزال تفكيره منصبا ويدور حول ما جادت به أفكار العصور الحجرية وما قبل التاريخ.
ولهذا السبب ربما فهم صانعو الحضارة العصرية أن التواجد ضمن دائرة المعرفة وضمن جوانب العلوم والبحوث العلمية هو الذي يقرب المجتمع نحو الحضارة ويديم تواجده ضمن نسق حضاري خاص.كما أن التعرف عن قرب على مكنون الثقافات الأخرى يزيد من التلاحم الفكري من خلال تناغم الأفكار والتواصل بين الأجيال.وحتى وإن كان الموروث الثقافي لا يعطي إشارة إيجابية لصناعة الحضارة بمفهومها العضوي الشامل فمع أسف شديد عالمنا العربي المسلم ما يزال لصيقا بهذا الموروث الثقافي لاعتبارات عدة وقد نعتبره التصاقا كحالة نوم ليس إلا.
عندما قال مالك بن نبي رحمه: لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء) بل بمقدار ما فيه من أفكار .كان محقا كمفكر رأى تجارب كثيرة لمجتمعات كثيرة فقدت دورها الحضاري كمحرك للحضارة لكن حافظت على أفكارها للعودة مجددا نحو المسرح الدولي لتعيد تحريك الدورة الحضارية من جديد.فهو في هذا الصدد يؤكد على أنه يحدث: أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة كأن يحدث فيضان أو تقع حرب فتمحو منه (عالم الأشياء) محواً كاملاً أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة عليه فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقاً. أما إذا استطاع أن ينقذ (أفكاره) فإنّه يكون قد أنقذ كل شيء إذ أنه يستطيع أن يعيد بناء عالم الأشياء .
ويعطينا مثالا بألمانيا التي عرفت الهدم لمرتين لكنها استطاعت أن تنهض من جديد فيقول: لقد مرت ألمانيا بتلك الظروف ذاتها كما تعرضت روسيا لبعضها إبان الحرب العالمية الأخيرة. ولقد رأت الدولتان- وخاصة ألمانيا- الحرب تدمر (عالم الأشياء) فيهما. حتى أتت على كل شيء تقريباً. ولكنهما سرعان ما أعادتا بناء كل شيء بفضل رصيدهما من الأفكار.
لكن حسب بن نبي فعالم الأفكار لا يمكن أن يكون إلا بمحرك آخر وهو شبكة العلاقات بين المجتمع لأن المجتمع الذي تحكمه علاقات متناغمة يستطيع أن يعيد بناء أفكاره من جديد.لهذا يتحدث من خلال كتابه ميلاد مجتمع فيقول: البناء هو في ذاته نوع من العمل المشترك الذي يقوم به مجتمع معين ولقد رأينا فيما تقدم أن تمام هذا العمل ضرب من المستحيل ما لم تكن هناك شبكة العلاقات التي تنظمه وتجعله سبيلاً إلى غاية معينة. وبذلك نستنتج أن ثروة الأفكار وحدها ليست بكافية كما دلنا على ذلك تاريخ المجتمع الإسلامي في موقفين فعندما بدأ هذا المجتمع دخوله حلبة التاريخ في القرن السابع الميلادي كان (عالم أفكاره) ما زال جنيناً غامضاً إذا ما قيس بالمجتمعات المتحضرة التي غزاها وهزمها في مصر وفي فارس وفي الشام.فعملية (الأفكار) تخضع إذن لشبكة العلاقات أي إننا لا يمكن أن نتصور عملاً متجانساً من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية. وكما كانت شبكة العلاقات أوثق كان العمل فعالاً مؤثراً وعليه فإذا كانت ثروة مجتمع معين يتوقف تقديرها على كمية أفكاره من ناحية فإنّها مرتبطة بأهمية شبكة علاقاته من ناحية أخرى .
لكن يشترط في هذا الأفكار أن تخضع للواقع الداخلي فلا يمكن لأي فكرة خارج المحيط المجتمعي الخاص أن تنجح إلا إذا كانت من صميم الحالة النفسية للمجتمع وهذا ما يؤكد عليه بن نبي في كتابه ميلاد مجتمع فيقول: مجال المجتمع ليس كمجال الميكانيكا وهو لا يرتضي كل الاستعارات لأن أي حل ذي طابع اجتماعي يشتمل تقريباً ودائماً على عناصر لا توزن ولا يمكن تعريفها ولا يمكن أن تدخل في صيغة التعريف على حين تعد ضمناً جزءاً منه لا يستغنى عنه عندما تطبق في ظروف عادية أي في ظروف البلاد التي نستوردها منها.وبعبارة أدق هذه العناصر جزء من المحيط الاجتماعي - في الحالة التي يطبق التعريف خارج هذا المحيط- تطبق تلقائياً في صورة فكرة يفرضها الوسط على سلوكنا. فإنّ لم توجد يصبح التعريف زائفاً تقريباً إذ تنقصه بعض الأشياء التي ضاعت حين انفصل عن ظروفه الأصلية .
ومن خلال ما تقدم فما مؤداه أن التناغم المجتمعي يصنع الحضارة بأفكار جديدة نابعة من الذات المجتمعية نفسها ولا غرابة إن كان هنا استيراد فكري مؤقت لكن يتوجب أن تكون هناك ضروروة وحتمية الغربلة قبل الطرح الفعلي في الساحة الفكرية لغاية التعميم ومنه العمل به داخل الدوائر المتخصصة بغية خلق حضارة.
إعلامي ومخرج سينمائي وتلفزيوني