مراصد
إعداد:جـمال بوزيان
وعياً بالرسالة الحضارية للأمة
ضرورة نصرة وتوسيع نشر اللسان العربي في أصقاع العالَم
ترصد أخبار اليوم مقالات الكُتاب في مجالات الفكر والفلسفة والدِّين والتاريخ والاستشراف والقانون والنشر والإعلام والصحافة والتربية والتعليم والصحة والأدب والترجمة والنقد والثقافة والفن وغيرها وتنشرها تكريما لهم وبهدف متابعة النقاد لها وقراءتها ثانية بأدواتهم ولاطلاع القراء الكرام على ما تجود به العقول من فكر متوازن ذي متعة ومنفعة.
*****
علاقة اللغة العربية بِتقدم المجتمع العربي
أ. د. بومدين جلالي
اللغة العربية هي وعاء وجود المجتمع العربي وروحه وإذا كُسِّرتْ سيحدث تكسير لهذا المجتمع في إجماله وتفصيله... لماذا؟
سيحدث التكسير إذا كسرت العربية لأنها الرابط الرئيس بين هذا المجتمع وبين الدين الإسلامي -مقومه الأساس-... بينه وبين أناه الجَمْعي القادم من جذور تكوينه... بينه وبين تراثه الحافظ لهويته... بينه وبين روح واقعه التي لا يمكن تغييرها بجرة قلم ولا بألف جرة وجرة كما حاول الاستدمار وورثته ذلك... بينه وبين طموحه المشروع الذي يريده أن يبقى حاضرا في صناعة التاريخ ولا حضور له إلا ببقاء الأنا العربي المنماز بلغته أساسا وتأسيسا وتطورا تاريخيا في مقابل الآخر المختلف المنماز بلسانه وغيره من الاختلافات.
من هنا فعبارة المجتمع العربي لا معنى لها إلا بوجود اللسان العربي في مستويين أولهما اللغة العربية الفصحى في المعرفة الدينية والمعرفة الدنيوية بصورتيهما الشموليتين الرسميتين الرابطتين بين جميع جزئيات هذا الكل الكبير وثانيهما اللهجات العربية الدارجة المتولدة عن الفصحى والقريبة منها روحا وتركيبا ومعنى في الغالب ضمن الأوساط الشعبية في تعبيرها عن بعض حاجاتها اليومية العادية.
والتقدم الوحيد الذي تحيل عليه دلالة لفظ التقدم بالتمام والكمال وفي إطار الخصوصية وعدم الذوبان في الآخر المختلف المهيمن حاليا لن يحدث عند العرب إلا بلغتهم العربية الفصحى ... وإن حاولوا بغيرها سيكون مصيرهم التبعية لغيرهم والذوبان فيه تدريجيا إلى غاية الخروج النهائي من مسرح التاريخ.
مع الإشارة –للانهزاميين والمتآمرين معا– إلى أن اللغة العربية الفصحى غير قابلة للهزيمة والانقراض والخروج من التاريخ... وهذه عوامل ذلك:
أولا - دينيتها الثابتة عند الخاص والعام من المنصفين والمنصفات.
ثانيا - ثراؤها وشموليتها وسعتها ودقتها وانفتاحاتها على الإضافة وتربعها على عرش ترتيب جميع اللغات.
ثالثا - أقدميتها في الظهور بوجه مكتمل على وجه الأرض واستمرارها المتواصل في التاريخ الطويل العريض من غير قطيعة.
رابعا - تراثها الضخم الفخم الذي ما ترك شاردة ولا واردة إلا وتناولها بجميع أوجه التناول.
خامسا - جَمالها الفني الذي فاق كل جَمال حين الحديث عن نبضات القلب الولهان ووساوس الروح القلقة ومعاناة الإنسان وغير الإنسان ضمن تعاقبات الليل والنهار في واقعيات وغرائبيات كانت الحياة حياة بها.
سادسا - قدرتها البالغة على استعراب روح هذا العصر التكنولوجي -بدليل حوسبتها في وقت قياسي- والمساهمة الفاعلة في جميع حيثيات ما نستقبل من الزمان وذلك بفعل جمهور كبير جدا من أبنائها الأوفياء وبناتها الوفيات في الأقطار العربية كلها والمهاجر المتعددة من الذين جمعوا بين الدين والعلم والثقافة وجرأة أسلافهم الميامين وإرادة الإنسان النابع من ذاكرة الصحراء وهم يشتغلون دون ثرثرة ولا بهرجة من أجل غد أحسن وأجمل بمشيئة الله تبارك وتعالى وعونه وتوفيقه سبحانه.
وفي ختام هذه الكلمة المختصرة أسجل تثميني لوعي حملة الحرف العربي الصامدين في وجه حملات تشويهه.. العاملين على نصرته في السراء والضراء... المقتنعين بضرورته الإنسانية / الرسالية الخادمة لهم ولغيرهم.
*****
فاتحون على أبواب فرنسا
أ. د.محمد فتحي عبد العال
ينتمي أبو سعيد عبدُ الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغَافِقِيّ العَكِّيّ لقبيلة (غافق) وهي من فروع قبيلة (عك) التهامية اليمنية وهو من التابعين المشهود لهم بالعدل والأخلاق وكثرة الجهاد وكان له دورا مهما في رأب الصدع بين قبائل العرب (المضرية واليمنية).. والعرب المضرية ويسمون أيضا القيسية والعدنانية وهم عرب الشمال أو العرب المستعربة نسبة للنبي إسماعيل عليه السلام وكانت لغتهم السريانية قبل التحول للعربية... أما القبائل اليمنية ويسمون أيضا القحطانية وهم العرب العاربة ذوو الأصول العربية الأصيلة وأصلهم من اليمن ولغتهم العربية. وكانت سياسة الأمويين للأسف تعمل على تغذية الصراع وتأجيج الفتن بين الفريقين مما جعلها أحد أهم معاول سقوط الدولة الأموية في النهاية.
كان السبب في إثارة هذه الحمية القبلية والنعرات الطائفية في الأندلس هو واليها الهيثم بن عدي الكلابي والذي تعصب للقيسية ضد اليمنية مما حدا بالخليفة هشام بن عبد الملك لعزله وتوليه عبد الرحمن الغافقي لإدارة هذا الملف الحساس في ولايته الثانية على الأندلس.
نعود لبدايات عبد الرحمن الغافقي والذي شارك مع موسى بن نصير في فتح الأندلس وقيل أنه رفض الاشتراك في قتل ابنه عبد العزيز والي الأندلس بعد ذلك بإيعاز من الخليفة سليمان بن عبد الملك وقيل لتنصره...وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز عين السمح بن مالك الخولاني واليًا على الأندلس بأمر مباشر منه على خلاف الشكل السابق من تبعية الأندلس وتعيين ولاتها من قبل ولاة إفريقيا فيما عين إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر واليا على أفريقيا.
السؤال لماذا اختار عمر بن عبد العزيز السمح بن مالك الخولاني واليا للأندلس بشكل مباشر وكذلك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر واليا على أفريقيا؟
نطمح من هذا السؤال أن نرى كيف كان للأمانة والصدق دور في اختيار الولاة في عهد الخلافة الراشدة..ففي أواخر عهد سليمان بن عبد الملك قدم خراج أفريقيا إلى مركز الخلافة في دمشق وكانت السنة المتبعة منذ عهد عمر بن الخطاب أن يرافق الخراج عشرة من عدول الناس والجند المقيمين بالولاية للشهادة أن هذا المال حلال ولم يؤخذ عسفا أو جورا وأنه الفائض بعد أداء مهمات الجند ومصروفات شؤون الولاية فحلف ثمانية وتخلف اثنان هما السمح وإسماعيل وكان عمر بن عبد العزيز من حضور هذا المجلس فأعجبه موقفهما وشجاعتهما فإن لم تستطع قول الحق فلا تصفق للباطل واستخدمهما في الولاية وقد كان إسماعيل علاوة على ذلك محدثا وفقيها وتابعيا جليلا..
ويقال أن عبد الرحمان قد قاد الأسطول الإسلامي في اتجاه جنوب أوروبا حيث أثخن في إيطاليا ممهدا لتخليصها من شرور البيزنطيين الطغاة بأمر من إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر والي أفريقيا الجديد.
كما شارك عبد الرحمان مع السمح بن مالك في غزواته التي وصلت مشارف فرنسا وعند مدينة تولوز (تولوشة) دارت معركة عظيمة بين جند الإسلام والجيوش الأوروبية التي هبت من كل حدب و صوب لنجدة فرنسا ليصاب السمح بسهم مات على أثره شهيدا مما أثر على نتائج المعركة خاصة مع الفارق العددي الضخم بين الفريقين والذي كان لصالح الروم فقاد عبد الرحمن انسحابا تكتيكيا رائعا باتجاه قاعدة ناربونة الجنوبية ليحافظ على جنده ويعيد ترتيب صفوفهم وتنظيم شئونهم تمهيدا لمعركة جديدة وقد نال محبة واحترام قواته فرشحوه واليا على الأندلس وقائدا لهم حتى قدم عِنبسة بن سُحيم الكلبي كوالي عليها من قبل بشر بن صفوان الكلبي والي أفريقية وقد آلت مقاليد الحكم للخليفة يزيد بن عبد الملك(يزيد الثاني) فعادت الأندلس لسابق عهدها في تبعية تعيين ولاتها من قبل ولاة أفريقيا ثم تعاقب على الأندلس عدد من الولاة حتى آلت في النهاية لعبد الرحمن بتكليف من والي إفريقيا عبيد الله بن الحبحاب السلولي في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك..
وتزعم بعض المصادر أن عبد الرحمان هو باني قنطرة قرطبة أو مجددها فيما ينسب البعض الفضل فيها للسمح بن مالك بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز وهي إحدى عجائب الدنيا في زمانها ومن مظاهر التقدم الحضاري الإسلامي في أشكال الانتقال والحركة...عمل عبد الرحمن في فترة حكمه على تقوية الجبهة الداخلية للأندلس فردوسنا المفقود خشية أن يعاود الروم الحشد لتهديد أمنها وفي سبيل ذلك قضى على مظاهر تمرد البربر ومنها أشكال الموالاة والتحالف مع أعداء الأندلس والتي قد تعصف بسلامة الدولة كالحلف والمصاهرة بين دوق (أكيتانيا أو أقطانيا) وعثمان بن مينوسة حاكم الولايات الشمالية دون إذنه حيث أرسل عبد الرحمان حملة كبيرة بقيادة ابن زيان لإخضاعه انتهت بمقتل بن مينوسة وأسر زوجته ابنة دوق أكيتانيا (لامبيجيا) والتي أرسلت إلى دمشق وتزوجت من أمير مسلم.
بدأ عبد الرحمان معركة الحسم مع أعداء الأندلس فانطلق بقواته كريح صرصر عاتية بسيوف ماضية صمصامة لا ينطفئ بريقها فاتحا مدن (آرل)على نهر الرون و(بوردو) و(ليون) و(بيزانسون) و(سانس) و(تور) ثم انطلق إلى مدينة (بواتيه) عازما على فتح باريس.
جمعت أوروبا جيوشا كبيرة بقيادة شارل مارتل (مارتيل) لتقع معركة بلاط الشهداء (تُعرف أيضاً باسم معركة تور أو معركة بواتييه) والتي انكسر فيها جند الإسلام واستشهد على إثرها عبد الرحمان الغافقي.
أحد أهم أسباب الهزيمة في هذه المعركة هو حجم الغنائم الجرارة والهائلة التي حصدها المسلمون على طول الطريق والتي شتت أذهانهم عن التركيز في هذه المعركة الفاصلة وكأنهم لم يستفيدوا من درس غزوة أحد وقد قيل أن عبد الرحمان هم بالتخلص من الغنائم أو الأمر بتركها في مواضعها لكنه تراجع وليته فعل.
كانت الغنائم هي الثغرة التي تسلل منها شارل مارتل لتشتيت انتباه الجنود المسلمين حيث هاجمها فتراجع بعض الجنود للدفاع عن الغنائم تاركين أماكنهم مما أحدث ارتباكا شديدا في صفوف المسلمين وحاول عبد الرحمان إعادة تنظيم قواته لكن سهما أودى بحياته وانتهت المعركة بانسحاب المسلمين.
لا مفر من الاعتراف أن من أعظم خطايا الفتوحات المتأخرة أنها أولت مسألة السبي والغنائم أهمية كبيرة وما كانت غاية الفتوحات في حقيقتها إلا لإعلاء راية التوحيد وجعل كلمة الله العليا وإخراج الناس من عبادة العباد والطواغيت إلى عبادة الله الواحد القهار مع الترغيب في العتق والفداء فيما يتعلق بالأسرى.. أما مسألة اقتسام الغنائم فقد كانت صورة تنظيمية لوضع قائم في فترات الحروب يتعامل معه الإسلام ظاهرا ولا يقره من حيث الفكرة والمبدإ بل ويعمل على الحد منه فالإسلام دين قام على أكتاف العبيد في مهده سعيا لحقوقهم وليس لضم المزيد منهم لأسواق العبيد علاوة على أن فلسفة السبي وجني الغنائم القصد منها في الأساس هو إفقار العدو واستنزاف موارده وطاقته وهي أمور تأتي في المرتبة الثانية وعلى مدى فترات زمنية متباعدة وطويلة..كما أن للجند رواتب ثابتة والسعي نحو الغنائم كان لزاما وأن يكون مقننا وفي حدوده الدنيا حتى لا تنصرف همم المجاهدين عن قضيتهم الأساسية إلى مسائل دنيوية زائلة..هذه الأمور تتجلى بوضوح في القرآن الكريم في قوله جل وعلا: (مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (سورة الأنفال الآية 67) وفي قوله أيضا: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْض ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (سورة محمد الآية 4) وفي قوله أيضا: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (سورة الأنفال الآية 1).
بقي السؤال:من انهزم ومن انتصر في هذه المعركة؟!
بداية لابد وأن نوضح أن الأديان لا تتقاتل ولا تتصارع ولا تتناحر إنما تتكامل ذلك أنها جميعا من نبع واحد ومن هدي واحد ومن مشكاة واحدة ألا وهو المصدر الإلهي والإسلام أتى مكملا ومهيمنا على الديانتين المسيحية واليهودية...وهذا النوع من المعارك هو نتيجة رفض من أصحاب المصالح والغايات الدنيوية بأوروبا للإسلام باعتباره دينا ومنهجا لبناء دولة في آن واحد واستشعار خطره على مراكزهم لذا فالخاسر هنا هو أوروبا بكل تأكيد والتي لو دخلها الإسلام مبكرا لاستظلت بسياج أخلاقي منيع ولما رأينا الشذوذ والعلاقات المحرمة تصول وتجول دون رادع لها بين مجتمعاتها ولما رأينا ما نراه من صور الفقر النفسي والتيه المعنوي والحياة بلا هدف والتحول لخدمة المادة وحسب وما ينشب عن ذلك من حالات الانتحار المتعددة.
لا ينبغي أيضا أن نضخم من نتائج هذه المعركة ونسير في ركاب الغرب ونصفها كما يصفها الأوروبيون بالعقاب الإلهي للمسلمين والحفظ الإلهي للمسيحية كديانة لأوروبا وأن شارل مارتل هو بطل المسيحية ومطرقة ضد الإسلام فالمعركة لم تكن بكل هذه الأهمية ولم تحرم المسلمين من معاودة الكرة للتقدم داخل عمق أوروبا إنما انشغال المسلمين بالصراعات الداخلية هو ما جعلهم ينصرفون عن مواصلة هذا الجهاد الواجب من أجل التمدد الروحي والأخلاقي الإسلامي داخل أوروبا والذي كان قادرا على الارتفاع بها من غيابات الظلام والصراعات إلى رحابة الإسلام وتسامحه وفضائله وما لم يصل له المسلمون بالسيف المسلط على أعناق الجبابرة في هذه المعركة وغيرها فقد وصلوا إليه بسحر العقيدة الإسلامية وأفكارها التي تسللت مع الوقت لأوروبا وتحول الملايين منهم إلى مسلمين موحدين.
*****