الحضارة برنامج عقلي

  • PDF

الحضارة برنامج عقلي

بقلم: المفكر التنموي إبراهيم تاج

الحالة الحضارية هي نتاج المعرفة والسلوك الذي نمارسه كل حين هي نتاج حياتنا النفسية والذاتية التي نعيشها باستمرار.. ألا تظنون أننا بحاجة إلى مجال جديد من حقول علم النفس التطبيقي حينما يتعلق الأمر بما يجوز تسميته بـ: علم النفس الحضاري .. حيث يتم دراسة أوجه التداخل بين الظاهرية النفسية والشأن الحضاري ولا شك أنه من العلوم البينية التي تتأسس من توليد المجالات المعرفية ونطاقات الممارسة.
في هذا المقال ومقالات قادمة – بحوله تعالى - سنتحدث عن حالات الذهن وبرامج العقل التي من خلالها تصنع الحضارة وتتمايز أو العكس.. منطلقين مما هو معرفي ونسقي دون الغوص فيما هو تحليلي عميق.

01 الميل للإنهاء والميل للإلهاء...

في مباراة كرة القدم العبرة دائما بتسجيل الأهداف.. فلا معنى لاستعراض الفنيات الفردية والفريق خاسر.. إن كانت الحضارة بشكليها حالة جمال و حالة كمال هو ظهور ناتج عن الممارسة الدورية للأجزاء فإنّ التمادي في التنميق والتدقيق هما بحد ذاتهما فعلا تدميريا.. فاللهو واللغو كلاهما مدمر لأنهما يعيقان عمليات الإنتاج والانجاز.
في داخل كل واحد فينا برنامج عقلي عجيب مرتبط بالكفاءة والمكافأة.. فبعضنا يحس بالاكتمال قبل الأوان فتراه يحصل على المكافأة النفسية على شكل الشعور بالرضا على الذات والحال بمجرد التفكير في الانجاز دون انجازه فعلا على أرض الواقع فالتشوف الذهني للمستقبل يجعله يعيش حالة تحقيق الهدف دون حدوث ذلك إنهم الحالمون الذين ينجزون وهما فقط دون أي محاولة لتجسيد ذلك.. وهم في الحقيقة سجناء أذهانهم يقتاتون على متعة خيالية من كيمياء المخ.
هذا الحالم الواهم موجود فينا جميعا ولكن بنسب متفاوتة فترى بعضنا يميل إلى الإنجاز ولا يقبل بأي تعويض ذهني حتى يرى أهدافه محققة أمام ناظريه.. وترى بعضنا يترك مشاريعه قبل إكمالها.. وفي هذا الأخير شؤون.. فهناك من يبدأ ولا يتم وهناك من لا يبدأ أصلا.. وهناك من يكمل دون إتقان وهناك من يكمل دون تجميل.. وهناك من يحقق الكمال والجمال ولكن مع هدر كبير للوقت والموارد.
فالأمة في الواقع رهينة هذا البرنامج العقلي الذي يشعر بالاكتمال في مرحلة ما من مراحل الانجاز.. فكم هي الجهود المهدرة والأزمان والأثمان في سبيل دوائر مفرغة لها جعجعة من دون طحين.
في المقابل وصل الغرب إلى مرحلة متقدمة في الميل للانجاز.. أقصاها ما عبر عنه بيل جيتس في عنوان كتابه العمل بسرعة الفكر .
هناك مستويات متعددة لإدراك هذا الكتاب فهو وإن كان يتعلق بثورة صناعية جديدة قائمة على الحواسيب والمعلوماتية حيث يكون تدفق المعلومة مواز ومزامن لتدفق الموارد والقيمة والسعي إلى أتمتة العمليات Automation.. فإنّ العمال في هذه المنظومة يجب أن يكون لديهم معرفة مركبة يتجلى ذلك في ما يتعلق بالمعرفة على مستوى عقولهم والمعرفة التي يبرمجون بها العقول الالكترونية.
إذا الأتمتة هي حل مستحدث لمسالة القدرة على الانجاز فحين يستخدم الإنسان أذرع الروبوتات ضمن عمليات السلاسل الإنتاج فهذه ثورة على مستوى الفكر أكثر منها على مستوى التقانة.
إن الفكر البشري تطور لمحاربة كل معيقات الانجاز مستخدما كل أوجه التفويض لتعويض أوجه القصور البشري: لذلك اخترع الآلة والإدارة.


02
الميل للإفناء والميل للإبقاء...
الاستهلاك قد يكون تعبيرا عن الوجود أنا أستهلك إذا أنا موجود.. فالمجتمعات الهشة التي تميل للبذخ والاستهلاك بدون ترشيد هي تعوض جوعا سابقا وفراغا في تكوينها الداخلي.. وحين تتسلق المادية سلم القيم تصبح الشيئية طابعا عاما.. فترى الناس لا حديث لهم إلا عن ماركات السيارات والجوالات أو حول ما يكتنزونه من ذهب وفضة.. وليس ما يكتنزون به من معرفة ونحن في مجتمع المعرفة حيث الفكرة هي المنطلق وللعودة إلى دائرة التجديد والابتكار.
الناس يستهلكون لإشباع حاجاتهم الأولية - حسب هرم الحاجات لماسلوف - وما يحقق لهم الأمان والآمان والانتماء.. ويستهلكون أيضا للوصول إلى تقدير ذواتهم ولتحقيقها بعد ذلك.. ولكن مفهوم تقدير الذات وتحقيقها يختلف حسب المجتمعات.. فالتمظهر والفشخرة التي تظهرها الأعراس التي خرجت من روح الأعراف وطيبة اللقاءات لا تظهر غير الفروق الاجتماعية والتمايز بين طبقاته.. فهي تفرق أكثر مما تجمع.. فالتبذير يخفي وراءه قاعدته المعرفية الخبيثة المنطلقة من فكر شعب الله المختار والذي تحدثنا عنه في مقال المجتمعات الزيتية .
و كلما زادت الأمة ثراء زاد الناس استهلاكا دون ادخار ولا استثمار.. وهذه تدميرية تدفن كل جهود التنمية.. هذه الظاهرة تزداد ترسخا في المجتمعات الأوروبية كلما انتقلنا من الشمال إلى الجنوب.. ونجدها حول العالم كلما انتقلنا نحو الشعوب القبلية وحيث الطبقية المجتمعية تفرض قوانينها في المجتمع.
فالاقتصاد القائم على الاستهلاك والإفناء هو عملية مدمرة للموارد وساحبة للأموال اتجاه الصفوة المالية التي تخزن وتستثمره.. وفي المقابل نجد اقتصاد إعادة توزيع الثروة الذي يمتلك آلياته على رأسها الزكاة يحقق إلى جانب العدالة الاجتماعية ميلا واتجاها نحو الاستثمار.. وسواء الاتجاه ادخارا أو استهلاكا كان ذلك لصالح التنمية.
إذا هو مشروع عقلي يدير قراراتنا لصالح إفناء أو إبقاء المال استهلاكا أو ادخارا واستثمارا وزكاة.


03
الميل للانتقاء والميل للارتقاء...
و هما مرتبطين أساسا بعملية الانتقاء وتطبيقها.. فالارتقاء هو انتقاء واحد لأمر واحد فيه استمرار لنفس الخيار وقد يكون تمعنا في التفاصيل وتوسع في ذات الموضوع.. عكس الانتقاء الذي هو ارتقاء في أوجه متعددة بصفة متوازية وتوسع خارج الموضوع.
قد يكون الفرق استلابا - أي تملكا – ولو كان معرفة.. ولكن هذا التوجه يصنع الفارق بين الحضارة في شقها الثقافي والحضارة في نصفها التمدني.. وقد لاحظت كثيرا أن الناس بينهما ميول واتجاهات حتى على المستوى الجمعي.. فكثيرة هي المجتمعات التي تهتم بالثقافة والقيم والتواصل قد تفقد الاهتمام بما هو جانب مادي من الحضارة فتراهم لا يهتمون بمظاهر التمدن المتعددة.. فالشعراء والفلاسفة لا يميلون للإنتاج خارج ذواتكم وهذا ليس حكما عاما بقدر ما يكون سمة غالبة.
إن خياراتنا للانجاز داخل أو خارج ذواتنا لا تختزله التفريق بين المنطوي والمنبسط بل هو برنامج عقلي تحويلي لطاقاتنا النفسية – ولا نقصد هنا الطاقة الحيوية -.. وهذا ما قد يفسد سقوط الطوباويات أمام المدنيات فالتكنولوجيا هي بارودة البندقية التي تصنع الفارق عند حدوث الصراع.
إن التحسين المستمر للتكنولوجيا عبر سلسلة القيم التي تعبر عنها المزايا والتحسينات هي ارتقاء متواصل لا تنقضي عجائبه بدء من الهواتف النقالة التي تحملها أيدينا إلى أسلحة الحرب والسلام.
في المقابل نجد المنظومة القيمية لا يمكن أن تختزل في واحدة منها دون غيرها ولا يمكن أن ترتقي الحضارات إلا بها.. لذلك فالحضارة تتصارع مع ذاتها في تغليب ما فيها هذا الصراع يبدأ في عقولنا نحن بين ميولنا واختياراتنا.


04
وراء كل سلوك قاعدة خفية تتحكم فيه وراء كل سلوك برنامج عقلي ينتجه.. بعض البرامج تدعم النهوض وتسرعه وبعضها تعيقه.. ومن الذكاء الحضاري فهم السلوكات وتصنيفها بين مع وضد وإدراك البرامج العقلية وتمييزها ثم تمييزها تارة أخرى كخادمة لشق الحضارة الثقافة أو لشق الحضارة المدنية.. وهنا أجدني أقسم دماغي شقين وعقلي أجعله فكرين.. حيث لا بد لي التفكير بكلها القدرات دون إغفال لجانب على آخر وحيث التحدي يكمن في إمكانية التوازن دون الميل لأحد الجانبين.. وهنا تتحقق الحضارة الشاملة.