كل واحد منا.. هو مشروع حضاري

  • PDF

كل واحد منا.. هو مشروع حضاري
بقلم: المفكر التنموي إبراهيم تاج
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته

المنطلق : أن النهضة هو فعل واعي.. وهو عكس التيه الحضاري الذي هو العيش في حلقة مفرغة بلا معالم ولا مقاصد.. أما النهوض فهو فعل الخروج من خواء اللاوعي إلى ممارسة مشروع بوعي مشروع ينطلق من إدراك الذات ويستمر مع إدارة العلاقة مع الآخر سواء كان الآخر حليفا أو غريما أو بيئة تنافسية بين الأمم.. مشروع يحترم خصائص اللاوعي ليستخدمها لصالح النضج والرشاد.. هذا المقال ينتهج مقاربة خاصة بالطب النفسي Psychiatrie ويستمد أدواته من الممارسة العيادية مع الفصاميين من جهة ومن التدخل مع الأطفال التوحديين.. وكلها محاولات للخروج من ظلمات اللاوعي إلى نور الوعي.. فيما يلي سبع خطوات :

01 مرحلة الطاعة... 
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (النساء : 59)
الطاعة اصطلاحا هي موافقة الأوامر طواعية واجتناب النواهي.. وهي مرتبطة في ديننا الحنيف ارتباطا عضويا بمسألتي الإيمان والعبادة.. والآية الكريمة هي أمر بطاعة الأوامر فهي بالتالي آية جامعة تتحول إلى قاعدة كبرى.. والطاعة لغة تجمع الموافقة : وهي مطابقة الرأيين فكريا والامتثال : وهي مطابقة بين الأمر والاستجابة.. والانقياد : أي أن الطاعة هي بحد ذاتها عملية تواصلية كاملة فيها أمر من قائد يسمع وتغذية راجعة إيجابية.. وفي خواتيم سورة البقرة (... وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ ).. ولذلك فمن شروط النهضة وجود رسالة واضحة والوضوح هنا شرط اتصال.. ويجب أن تكون الرسالة ذات وجهين : إيماني قيمي وعملي سلوكي وفي الإسلام أصلا لا فرق بينهما ومما قال الحَسَنُ البَصْريُّ: الإيمانُ كَلامٌ وحَقيقتُه العَمَلُ فإنْ لم يحقِّقِ القَولَ بالعَمَلِ لم ينفَعْه القَولُ.
إذا فالطاعة هي المنطلق في كل عملية قيادة سلوكية ألم تر إلى مروض الحيوانات !! من أين يبدأ؟! طبعا من إيعازات الطاعة.. أنظر إلى المروض وهو يوشوش في أذن كلبه بأفعال الأمر حتى برمجة الآلة ترتكز على الإيعازات وهذا ما أتذكره جيدا حينما تعلمت البرمجة القاعدية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات أول درس كان عن الإيعازات.. الإنسان ككل ليس عقلا آليا طبعا ولكن الوعي يرتكز على نفس الآليات.. وهنا يكمن السر فالحضارة بحد ذاتها تبدأ من تخلي الإنسان عن طبعه الوحشي التحرري عن فطرية الطفولة ليرتقي عبر درجات التنظيم المعرفي والسلوكي.. لذلك فالطاعة هي حجر الأساس في مشروعنا هذا.
و كل من ظن أن التحرر والعصيان طريق للتغيير والحراك الفكري أوالاجتماعي فقد جانب الصلاح في المواطنة.


02
مرحلة الهدوء...
تهذيب السلوك وضبط النفس مسألة في غاية الأهمية.. فالإنسان الصالح الفعال هو عادة ما يتصف ببرود الطبع دون انفعالات غير مدربة.. فالسلوك حضريا داخل المدينة وحضاريا يستوجب التحكم في ما يصدر عنا كالحلم وعدم التسرع في اتخاذ القرارات والقدرة على لجم الغضب والانفعالات السلبية.. والتحلي طبعا بالسلوك التوكيدي حيث التعامل مع الآخر يكون سلطانه العقل وليس العاطفة بعيدا عن العدوانية من طرف والانسحابية في الطرف الآخر.
وأسمع كثيرا قول من يقول أن الشخص العصبي هو أنقى وأطيب من ذلك الهادئ الخبيت لأن ما هو في قلبه هو على لسانه وليس عنده ما يخفيه عكس الهادئ.. وهذه مقولة للأسف كارثية.
أولا : أسوتنا هو رسولنا الكريم – عليه الصلاة والسلام – والذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق وهو الذي دعا لكظم الغيظ ولجم الغضب والتحلي بالحلم قرآنا وسنة ولا شك في ذلك.
و ثانيا : رجل الحضارة لا يأخذ معه الطباع الوحشية ولا طباع الكهف إلى مكتب العمل فضبط النفس والتوكيدية والتعقل والذكاء الانفعالي هذه كلها من المهارات اللطيفة Soft Skills التي على كل شخص منتج وفعال في شركته ومجتمعه أن يجتهد لاكتسابها.
عند اليابانيين تجد التحسين المستمر أو الكايزن Kaizen ومعناه طريق الزان والزان Zen هي حالة الهدوء والاتزان حيث يعمل الإنسان ويجتهد دون صخب ولا جدال.. وهذا هو درب التغيير الحقيقي.
و كل مواطن صالح وجب أن يكون هادئا ولطيفا يعمل بثبات دون أن يزعج من هم حوله.. كأنه صائم في موسم حج.


03
مرحلة الإدراك...
التكامل هو موافقة الاستجابات للرسائل الواردة من البيئة فالواقع الذي نعيش فيه والواقع الذي نتصوره في أذهاننا قد يختلفان فكثير من الناس يحمل الكثير من الأوهام.. الإدراك عملية لا تتوقف عند حدود الحواس بل تتجاوزه إلى الفهم والتفسير.. إن الفهم المشوه للواقع هو أكبر إعاقة على الإطلاق.. ما الذي يلقي الناس في التطرف والإرهاب؟! لولا العمى المعرفي.. إن الجمع بين عملتي الاستنتاج والاستقراء أمر ضروري في بناء المعرفة.. لأن التخمين وحده يصبح طريقا للضلال.
عمليا المواطن الصالح لا يتجاوز بفكره ما حجب عنه فأنا كخارج عن دواليب صناعة القرار في الدولة لا يمكنني أن اعرف ما يدور في كواليس قصر الحكومة مثلا أو القصر الرئاسي.. فأنا لا أعرف حتى مشاريع هذه السنة للبلدية التي أسكن فيها ثم يبدأ عقلي الصغير بحياكة السيناريوهات الغبية عما يحدث في البيت الأبيض والكريملن في المسألة الأوكرانية.. ثم يزيغ عقلي في سرد حكايات آخر الزمان وكيف ستندلع الحرب العالمية الثالثة بحرب نووية لا نهاية لها إلا بالعودة إلى زمن الجاهلية الأولى.. قصص مثل هذه تستخدم لتنويم الناس وتعويقهم.. وحاشى أن تكون الأحاديث النبوية تعمل على ذلك ولكن نحن نفعل ذلك بأنفسنا عن طريق التأويلات الفاسدة.. ففي الوقت الذي تتنافس فيه الأمم بالاكتشافات والتقانة الفائقة نمارس نحن فن التنويم الغبي والتعويق الذاتي.


04
مرحلة التقليد...
اليابان تطورت بالتقليد والصين كذلك.. وحتى تركيا تحاول محاكاة الصناعة الألمانية.. وطبعا أقصد التقليد للأدوار المنتجة : كالصناعة والإدارة والتقانة والمدينة وليس تقليدا للأدوار غير المنتجة : كالغناء والرقص والتشكيل وكرة القدم.
التقليد هو احترام لمبدأ تراكمية المعرفة البشرية وطريق سريع للحاق بركب التطور.. ولا شك.
عمليا أنا كمواطن صالح عندما أسافر لأي دولة متطورة وجب عليا أن أستجلب منها ما ينفع أمتي وأحاول أن أحققه في وطني.. ولا يتعلق الأمر بالتكنولوجيا فقط فقد يكون المستجلب طريقة إدارية أو تقنية بسيطة لحرفة يدوية أو عشبة طبية أو أداة ذكية أو كتابا مترجما أو بحثا أكاديميا ومجالات النقل لا تنتهي.
و هنا رغما عني أجدني أعاتب وألوم مهاجرينا في كل أصقاع العالم – وليس من عادتي اللوم – عن التقاعس عن هذا الفعل الحضاري.
05
مرحلة المهارات...
المهارات بأنواعها مهمة للمجتمع فهي ثراؤه.. وسواء كانت المهارات عملية تضمن العيش الكريم للناس وتزود سوق العمل بالجدارات المهنية أو كانت المهارات اجتماعية تضمن التعاون بين الناس والتكافل الاجتماعي ففي النهاية المهارات كلها خير.. وعلى الأمم تعظيم مخزون المهارات فيها ولما لا تشكيل بنك وطني للمهارات من أجل تثمينها وتسهيل الوصول إليها لرواد وأصحاب المشاريع.
عمليا : كمواطن صالح وجب علي أن أشارك في حركة تعلم وتعليم المهارات سواء كانت مهارات عابرة للأجيال أو عابرة للأمم.
06
مرحلة العلاج بالعمل..
اغلب مشاكلنا النفسية والاجتماعية والاقتصادية تحل عندما يتوجه الناس لممارسة الناس لوظائفهم وأعمالهم ويركزون عليه بل وينغمسون فيه.. العمل قبل أن يكون مصدرا للرزق هو شغل للذهن وعلاج ثالث للذهانيين بأنواعهم.. في العمل نحقق ذواتنا في العمل نطمئن قلقنا الوجودي عبر فعل محقق للوجود في العمل نسكت عقولنا حينا لنترك المجال لأيدينا أن تعبر في العمل نحن نرتاح أكثر ونشعر بالانتماء.
عندما أنغمس في عملي وأعيش حالة التدفق فيه ففي ذلك صلاح لي ولعائلتي ولأمتي كاملة.
07
مرحلة إعادة الإنتاج..
الإبداع هو نهاية النهايات السعيدة لرحلة النهوض وكما يسميه سيلفانو آريتي ذلك الولاف السحري .. فالإبداع هو جائزة العمل وفيه توليف بين ذواتنا وموضوع العمل وفيه تدفق لطاقاتنا النفسية والمعرفية لتحقيق منتج كنا ننجزه على طريقتهم الآن نركبه على طريقتنا نحن.
إعادة الإنتاج هو إزاحة ذكية للتراكمية المعرفية للبشرية.. وهو ما يميز الحضارات عن بعضها لأن فيها دوما لمسة ذاتية.. لأن الابتكار هو الحالة الوحيدة التي تتجاوز فيها الصناعة المحلية نظيرتها العالمية.
و عندما تبدع فيما تعمل وفيما تنتج فأنت تدفع أمتك إلى أعلى في سلم الحضارة.
و زبدة القول : أن النهوض المقصود في مقالنا هذا هو نهوض ناعم يمارسه كل واحد فينا هو تغيير يحاكي فعل التدين على سلوك الفرد ومخرجاته.. وحال الجماعة يتغير دون نية فعل ذلك لأنه تحصيل حاصل وتجميع جهود وتراكم خير.. وبالتالي فكل واحد منا هو مشروع حضاري قائم بذاته.