في الذكرى الـ17 لمجزرة بن طلحة

  • PDF

"أخبار اليوم" تتقرّب من المنطقة وترصد شهادات ناجين
عيش دائم  على ذاكرة الجرح·· والنتيجة أزمات نفسية حادة
ضحايا يعيشون الجحيم ويشتكون ضياع حقوقهم

من منا لا يتذكر أو لم يسمع حول العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر خلال التسعينيات، والأكيد أنه عند الحديث عنها يتبادر في ذهننا العديد من المجازر من بينها مجزرة بن طلحة الشنيعة التي جرت أحداثها في يوم 22 سبتمبر 1997 في ساعات متأخرة من الليل، بحيث وقعت انفجارات مدوية هزت حي الجيلالي جنوب غرب بن طلحة قرب براقي، بحيث شرع الإرهاب في التحرك بطريقة منظمة من منزل لآخر يذبحون جميع أفراد العائلة ممن وجدوهم في المنازل·

حسيبة موزاوي
فقتلوا ما استطاعوا من النساء والأطفال والشيوخ والرجال مستعملين الفؤوس والسيوف والخناجر والرصاص، بعضهم يرتدون ملابس سوداء قتالية، والبعض الآخر الملابس المميزة للإسلاميين، وهي القشابية مع أقنعة ولحى، حيث بلغت أصوات الصراخ والإنذارات عنان السماء، والملاحظ حسب شهود عيان أن بعض السكان المحليين كانوا ينادونهم بالاسم، غير أنهم واصلوا مذبحتهم، فكانوا يضربون الأطفال بعنف في الجدران ويقطعون الأطراف ويضربون الأعناق ويغتصبون النساء ثم يقتلونهن، مذبحة دامت قرابة 6 ساعات، لكن المؤلم أكثر أن الجريمة كانت في معركة غير متكافئة بين أبرياء عزّل تُركوا لمصيرهم فقُتلوا بوحشية·

شهادات لناجين من المجزرة
على ملامحها ارتسمت علامات تعب وشقاء عمرها سبعة عشر سنة، تتحدث عن مأساتها بمرارة وخيبة·· هي سيدة بسيطة لم تعرف يوما السياسة، لكن القتلة هاجموا بيتها وقتلوا ابنتها البالغة من العمر 18 سنة تاركة وراءها طفلا لم يتجاوز العامين صار يتيما بإرادة القتلة الهمجيين، أما هي فأصيبت برصاصة على مستوى البطن، وبالنسبة لابنتها الأخرى أصيبت بأربع رصاصات غير أنهما بقيتا على قيد الحياة وكتب الله لهما العمر الطويل، حدث ذلك في 1997 لسبب لا تدريه، تشردت بين البيوت والأزقة، عاشت سبعة عشر سنة على صدقات المحسنين، بعدها تم توظيفها كعاملة نظافة بمدرسة في إطار تشغيل الشباب مقابل ألفي دج شهريا، غير أنها لم تستفد من التعويض عن مقتل ابنتها قائلة (وين راح حق بنتي ووليدها) خاصة مع الظروف الاجتماعية المزرية التي تتخبط فيها، تحتار هذه السيدة التي يداهمها الكبر كيف تتأقلم في مجتمع بات لا يرحم· مازالت هذه السيدة إلى حد اليوم تعيش على حلم الاستفادة من أربعة جدران تعيد إليها بعضا من كرامتها·

سنوات بعد المجزرة·· يأس·· قنوط وتشرد للعائلات

طوال جلسة الحديث كان مطرقا وصامتا، لم يعد شيئا يهمه، كان ساقطا في بؤرة اليأس العودة منها لم تعد ممكنة، اسمه رابح لكن مشواره في الحياة لم يكن رابحا أبدا· خصوصا بعد الحادثة التي وقعت له في سنة 1999 بحيث اقتحم بيته القتلة الإرهابيون وذبحوا ابنته وقضوا على أخيه وزوجة أخيه وأبنائهم السبعة، من بينهم رضيع عمره أربعة أشهر ذبحوه ووضعوا رأسه في مجاري المياه· رابح قضى 11 سنة مشردا بين بلديات وأماكن مختلفة من العاصمة والبليدة، من موزاية إلى تسالة المرجة· حاليا يعيش في مستودع تبرع له به أحد المحسنين، جدرانه من النيلون يفصل بين غرفه البلاستيك، زوجته معاقة وأبناؤه يعانون من اضطرابات عصبية جراء الفظائع التي عاشوها، لم يكن له ما يقوله غير لعن الواقع الذي أوصله لما هو فيه الآن·

يقتلون زوجها بعد أن اتهموه بامتلاك قطعة سلاح
علامات التعذيب والمأساة ما تزال ظاهرة على ملامحها، فاطمة عذّبها من كانوا يتحدثون باسم الله، وقتلوا زوجها وطردوها منذ 1995 من أجل قطعة سلاح وهمية، زوجها كان يشتغل نجارا في الجامعة، اتهمه الإرهابيون أنه يخفي سلاحا، أخذوه من بيته وقتلوه عام 1995، ترك خلفه ستة أطفال آخرهم كان في بطن أمه، انتظرت عودة زوجها لكنهم عادوا من أجل ذبح الأطفال وإحراقها حية بالبنزين، استولوا على مصوغاتها وأحرقوا البيت وضربوها وهي حامل في شهرها التاسع··)، منعوا عنها حتى شربة ماء، ما زالت تذكر تفاصيل وجوههم ولحاهم الكثيفة، أحدهم كان مبتور الأصبع، منظرهم يثير الرعب في مخيلتها، فترتعد الكلمات بين شفتيها وإلى اليوم تخاف أصحاب اللحية!· شيء واحد أنقذها ليلتها من الحرق حية·· الخلاف بين الجماعة التي قصدت بيتها حول طريقة قتلها، انتهت بتصفية بعضهم البعض· هربت واختفت في قبو مدة 17 سنة، طاردها القتلة، مرة أرسلوا لها مجهولا يبحث عنها قال إنه خالها، ومرة بعثوا متسولة، تقول (كانوا يراقبونني طوال هذه المدة  لقتلي) فاطمة تعاني إلى اليوم الخوف من أن يقتفي أحدهم أثرها، ابنها معاق وابنتها معاقة، ولكن لا يستفيدان من منحة وهي تعيش على منحة هزيلة غير منتظمة، لازالت إلى اليوم لا تفهم لماذا قُتل زوجها وعذبت هي بتهمة الطاغوت ولا تعرف حتى معنى هذه الكلمة·

أزمات نفسية وضياع للحقوق
وفي هذا الصدد تقول (م· سعاد)، أخصائية نفسانية تتابع حالات الضحايا أن الأزمات النفسية التي يعاني منها الضحايا انتقلت إلى أبنائهم، حتى لو كانوا لم يعيشوا العشرية السوداء، لكن حديث الأولياء عنها وما رافقها من مجازر جعل أبناءهم يتمثلون تلك الأزمات التي تظهر في سلوكياتهم، حيث يعاني أبناء ضحايا الإرهاب من عدة صعوبات مثل الخوف والانطواء والفشل المدرسي، وصعوبة الاندماج في المحيط· وأضافت المتحدثة، أن الأخصائيين النفسانيين والمربين المهتمين بقضية العشرية السوداء ينظمون جلسات استماع وعلاج للضحايا ولأبنائهم، وفي بعض الأحيان جلسات عائلية للاستماع من خلال مشروع (الذاكرة) الذي جمعت فيه شهادات ضحايا الإرهاب من جهة، ومن جهة أخرى ساعدتهم على التعبير عن آلامهم العميقة، وتجاوز جرحهم بمشاركة الآخرين· وما لاحظه الأخصائيون النفسانيون، تقول (م· سعاد)، إن ما فاقم حجم المأساة عند الضحايا هو غياب  الاعتراف بوضعهم وتجاهل حقوقهم، لهذا تضيف المتحدثة أن هناك عدة مشاريع منها مشروع (دار حرية) الذي يقدم توعية قانونية واجتماعية تساعد الضحايا على إعادة الاندماج في المحيط ومعرفة كيفية المطالبة بحقوقهم، وقد ظهرت نتائج المشروع في تعاملات الضحايا الذين صاروا أكثر وعيا، واستعدادا للحوار والتعبير، ومقتنعين أن العيش على ذاكرة الجرح لا يحل المشكل·