في عطلة نهاية الأسبوع، صبيحة يوم من أيام فصل الربيع الجميلة، بجمال أشعة شمسها الدافئة وروعة صوت زقزقة العصافير المحلقة ومنها العابرة للأجواء وكأني عليها تشبه فرقة أوركسترا عالمية وهي بالفعل كائنات خارقة للعادة، أغاني العصافير هي من عجائب الطبيعة، فلطالما أسعدت أغانيها الإنسان بجمالها وسحر صوتها الممتع والجذاب، الذي غالبا ما يوحي بالهدوء والرومانسية، العشق والحب···
وفي وقت مبكر من صبيحة تلك الأيام الربيعية، خرج ذلك الشاب الوسيم من بيت أهله وكعادته واضعا على ما أمكن من جسمه وملابسه قليلا من العطر الباريسي الرائع ذو الجودة العالية وكله في ذلك ديناميكية، حيوية ونشاط، وحتى تتضح الصورة جيدا هو - فنان مصور فوتوغرافي - على مقربة من مكان سكناه توجه نحو الكشك بائع الجرائد واقتنى من عنده صحيفتين إحداهما صادرة بالعربية والأخرى باللغة أجنبية، وليس ببعيد قصد الساحة الكبرى التي تتواجد عليها مجموعة من المقاعد العمومية، وعلى امتداد أطراف تلك الساحة الكبرى يتوزع بمقربة من محيطها وبانتظام جميل ودقيق شريط لحزمة من العشب الأخضر الطبيعي، يتخلله مجموعة من الورود الباهية، تختلف فيما بينها ومع غيرها في جمالها، ألوانها وأشكالها، أصنافها وأسماؤها، حياتها طولها وقصرها، إذ تفوح بعطرها وتبخ به من حين لآخر على قاصدي ومرتادي ذلك الفضاء الجميل (الساحة الكبرى)، تتوسطها نافورة الماء التي اعتادت أسراب من حمام السلام والوئام أن تحط عليها بدافع شرب الماء والتزود به ولها فيه مآرب أخرى كالاستحمام والاستجمام، من خلال شكلها ومنظرها، جمالها وروعتها، كأني على المرء يتذكر بذلك ويشاهد من الجانب الآخر (نافورة الأسود الشهيرة) - المتواجدة في غرناطة بإسبانيا هذا المعلم التاريخي ما زال يمجد حضارة العرب على الرغم من مضي قرون على بنائه ·· -
وهو في تلك الساحة العمومية، في فضائها جلس على إحدى مقاعدها، وبعد ذلك بدأ يتصفح الجريدة الصادرة باللغة العربية، (هي البداية، أم البدايات، أم النهايات، على هذه الأرض ما يستحق القراءة بها) وبعد حين فترة من مطالعتها فقراءتها وتصفح أوراقها، انتقل إلى الجريدة الموالية التي هي، مواضيعها ونصوصها، مقالاتها وكتاباتها، نقاشاتها وأفكارها، التي تصدرها بلغة أجنبية، وهو يقرأ في محتواها إذ يصل به قطار القراءة إلى محطة صفحة (فنون و ثقافة)، بالنسبة إليه كانت لحظتها آخر محطة لسفره عبر القراءة والتصحف فيخرج من على بابه الأتوماتيكي، قبل أن يقوم بفعله هذا وبقليل، إذ وقتها يسقط نظره ويلمح ببصره على موضوع، بدوره هذا الأخير يجذب بفكره ويصادر عقله نحوه، في عجالة من الأمر ودون تأخير حمل معه الجريدتين وعاد مسرعا إلى منزله، أمام البيت طرق بابه بشدة، بدورها فتحت له أمه الباب، وهو على حاله مسرعا دخل إلى المنزل وملامح الفرحة والسرور بادية على وجهه، قال حينها مخاطبا بذلك والدته·· (أمي أمي لقد وجدتها··)، فردت عليه أمه (شو، وجدت يا بني···؟)، فيكرر العبارة نفسها·· (هي هي··لقد وجدتها يا أمي، وسأبحث عن أدق تفاصيلها···)، فتقول والدته (بشويش علي وعلى صحتي وسني المتقدم، ما تزيدني على الذي أنا فيه أنت أيضا، يكفيني أشغال البيت والأواني اللي دوختني في المطبخ، فتزيد الدوخني أنت الآخر وبهكذا ألغاز···)·
حينها انصرف فكر الوالدة إلى أمر ما، لطالما شدها موضوعه إلى صميم فؤادها وأخذ ولا يزال يأخذ وإلى حد الساعة حيزا كبيرا من تفكيرها بفلذة كبدها ابنها، فأخذت منه الكلمة وقبل أن يعلل ما جاء به من أنباء بالنسبة لها هي تبدوا كالألغاز!، قالت له (أنا أيضا لقد وجدتها لك هي ميسورة الحال، ودون عناء بحوزتي أدق التفاصيل عنها···)، حينها سألها ابنها (بدي أعرف على شو بتحكي يا أمي···؟)، ردت عليه وبسرعة دون أن تتيح له أدنى فرصة لا بالكلام ولا حتى بالتنفس ونزلت عليه وأمطرته بوابل من التمهيدات (بدي، أعرف شو لونها، هل هي قصيرة أم طويلة؟، شقراء الشعر أم سوداء، سمراء أم بيضاء، هل هي جامعية أم دون ذلك، هل تشتغل أم ماكثة بالبيت، أحب أعرف فصلها وأصلها··؟) اندهش ابنها من ذلك وبقي حيرانا من الموضوع الذي فاتحته فيه والدته، فهنا بادرها ابنها قائلا لها (لقد وجدت في الجريدة موضوعا عن مسابقة في فن التصوير الفوتوغرافي، والذي أعتزم أن أشارك فيها···) ردت عليه المسكينة والدته وكلها أسف وهي على حالها تشبه بذلك وتعكس الصورة الطبق الأصل لباقي الأمهات) وبنت الحلال هل وجدتها يا بني···؟) فأجابها قائلا (ليس بعد يا أمي···)·
مساهمة: محمد يونيل/ فنان مصور