الأنظمة العربية بين عمرو بن كلثوم وعمرو بن هند

الأربعاء, 06 يناير 2021


بقلم: فايز أبو شمالة*
المشابهة كبيرة بين حال الأنظمة العربية في القرن الواحد والعشرين وحال القبائل العربية نهاية القرن السادس الميلادي قبل أن ينضووا تحت راية الإسلام فقد كانوا متفرقين بين الولاء والتبعية لدولة الفرس أو الخضوع لدولة الروم وتلك الفرقة والتبعية كانت منطقية في ذلك الزمن الذي اتسم بالصراع بين القبائل وما رافق ذلك من تحايل على الاستئثار بمصادر القوة بما في ذلك البحث عن حليف يوفر الحماية ولا ضير إن كان رومياً أو حبشياً أو فارسياً طالما كان قوة عظمى بمقاييس ذاك الزمان الذي غابت عنه العقيدة وتعارضت فيه مصالح القبائل العربية واشتد الصراع بينها على مراكز النفوذ ليكون طموح القادة أو أطماعهم في ذلك الوقت محكومة بقدرتهم على المكائد والدسائس ونصب الكمائن للآخر والغدر به وتلك سياسة تتشابه في مضمونها مع سياسة القادة في الزمن الراهن والتي تقوم على تسخير العبيد والتبع من جهة والارتماء في أحضان الحليف أو السيد من جهة أخرى لتصير العلاقة جدلية بين المهانة والدكتاتورية وبين الخنوع للحليف الخارجي والظلم والاستبداد الداخلي.
*الزمن العربي المتفكك
في ذلك الزمن العربي المتفكك والخانع تحالف عمرو بن هند ملك الحيرة مع الفرس وبمعنى أدق صارت مملكة المناذرة صنيعة الغرباء بقوتهم استقوت على أهلها وعلى بقية القبائل العربية فمصدر القوة والنفوذ مستمد من القوى الخارجية والتي تحرك الملك العربي عمرو بن هند بالريموت في كل شأن من شؤون المملكة وتفيد كتب التاريخ أن هذا النمط من التبعية للغريب كان قائماً بين مملكة الغساسنة في الشام ودولة الروم أيضاً.
المقاربة بين الزمن الماضي والزمن الحاضر ليس ترفاً ثقافياً بمقدار ماهي قراءة سياسية للواقع والهدف هو التحذير فإن لم يجد نفعاً فالهدف من المقاربة هو التنوير كمقدمة للتثوير وأزعم أن هذا هو دور المثقف وهذه هي وظيفة الإعلام الصادق في الزمن الذي استوحشت فيه وسائل الإعلام المعادية لتحرر الأمة وراحت تنفث سموم الخنوع والخضوع في مفاصلها.
*رحلة البحث عن الذات
تحالف مملكة المناذرة مع الفرس لم يرض قبائل العرب كلها ولا أقصد هنا الغساسنة خصوم المناذرة وإنما أقصد القبائل العربية التي رفضت في ذلك الوقت التبعية وتفاخرت بعروبتها وبقدراتها واستقلاليتها عن الفرس وعن الروم معاً في رحلة البحث عن الذات وهؤلاء هم الذين وجدوا ضالتهم بالدين الإسلامي فاحتموا به من الغرباء وهم الذين تمردوا من قبل على الأنظمة الحاكمة التي كانت خاضعة للفرس والروم وتفاخروا في المقابل بعروبتهم من خلال التفاخر بالقبيلة وأخلاقها العربية وشيمها التي ظلت مصدر فخر ورفضت الانصياع لأوامر ملك العرب واللهاث خلف عطاياه وهذا الذي ظهر في معلقة عمرو بن كلثوم حين خاطب الملك عمرو بن هند قائلاً:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا
فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
بِاَيِّ مَشِيْئَـة عَمْـرُو بْنَ هِنْـد
نَكُـوْنُ لِقَيْلِكُـمْ فِيْهَا قَطِيْنَـا
بِأَيِّ مَشِيْئَـة عَمْـرَو بْنَ هِنْـد
تُطِيْـعُ بِنَا الوُشَـاةَ وَتَزْدَرِيْنَـا
هذه اللغة تخبئ التحدي هي أبيات شعرية تحمل كل معاني الرفض للواقع الذليل الذي قادته بعض القبائل وهي تسلم زمام أمرها للغرباء فالفخر هنا تجاوز حدود القبيلة الجغرافية لينتقل إلى الاستخفاف بالملك العربي الذي لا يملك من أمره شيئاً ومن ثم الاستعداد للمواجهة فالحديث المباشر مع الملك دليل الندية فإذا كان عمر بن هند ملكاً مدعوماً من الفرس فإن عمرو بن كلثوم هو زعيم المعارضة المدعوم من القبيلة أو من القبائل الرافضة للتبعية والمهانة من هنا جاء التهديد للسلطة بقوله: ونجهل فوق جهل الجاهلين.
العرب في الزمن الراهن في حاجة إلى معارضة فاعلة مثل معارضة عمرو بن كلثوم يصرخ في وجه الحاكم ويعترض عليه ويرفض اسلوبه في الحكم ويطالبه بالعدل والانصاف ويتحداه في عقر مملكته فالذاكرة تحفظ للشاعر هذا التحدي رغم قوة المخابرات والعملاء التي كان يتمتع فيها ملك الحيرة في ذلك الوقت ورغم الدعم الدولي الذي شجعه على البطش بقومه والتفرد بالقرار دون مساءلة أو محاسبة.
لم يكتف الشاعر عمر بن كلثوم بالمراجعة والمساءلة والعتاب للملك عمرو بن هند فهذه اللغة التي تجاهلها الملك العربي كانت محرضاً للشاعر عمر بن كلثوم كي يتقدم خطوة في المعارضة ورفض الخنوع فقال له:
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفـاً
أَبَيْنَـا أَنْ نُقِـرَّ الـذُّلَّ فِيْنَـا
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ
تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا
هذا الحديث الشعري لا يقف عند حد الفخر والاعتزاز بالنفس إنه الغضب على نظام الحكم وهذا لا يمثل موقفاً شخصياً أو قبلياً وإنما يمثل حراك أمه ترفض المذلة فالحاكم الذي يسود الناس خسفاً ويذلهم هو حاكم مأجور موظف لدى القوى الدولية وأمثال هؤلاء الحكام منبوذون من الشعب مرفوضون من مثقفي الأمة الذين كتبوا الشعر وحرضوا قادة القبائل على الاعتزاز بعروبتهم أو التفاخر بقبيلتهم فلا فرق هنا بين القبيلة والعروبة طالما كان الهدف هو صراع الجبابرة والتخلص من إذلالهم للشعوب.
حين ندقق في المشهد العربي الذي كان قائماً قبل أكثر من ألف عام وبين المشهد العربي القائم في هذه الأيام نجد القواسم المشتركة لا تقف عن حدود تبعية الملوك والحكام لقوى إقليمية أو دولية ولا تقتصر المقاربة هنا على تسليط الضوء على تسلط الحاكم والبطش بالشعوب ولا هي بالتفرد بالقرار ولا هي قرينة توارث الحكم لكن المشابهة في الخواتيم فنهاية الملك عمرو بن هند لا تختلف كثيراً عن نهاية حسني مبارك أو زين الدين بن علي أو نهاية علي عبد الله صالح أو معمر القذافي أو عبد العزيز بو تفليقه أو النهاية التي تنتظر الآخرين فأمثال عمرو بن هند الذين أخذتهم العزة بالإثم لانت رقابهم لسيف عمرو بن كلثوم وأمثاله من شباب العرب الرافضين للمذلة والتي تأبى نفوسهم التطبيع مع الأعداء والخضوع للغريب.
*الاحتماء بالقوى العظمى
ومن الحكمة الانتباه إلى أن نهاية عمرو بن هند مقتولاً على يد عمرو بن كلثوم فيها إشارة واضحة إلى أن الاحتماء بالقوى العظمى وتسليمها مقدرات الأمة لم يكن منجيا للملك من ثورة الشعوب فما أسهل أن تستبدل القوى الأجنبية موظفاً لديها انتهت صلاحيته بموظف آخر تم إعداده خلف الكواليس.
ومن المفارقات العجيبة أن الشاعر عمرو بن كلثوم سيد قبيلة بني تغلب قد جاء من البحرين ليلتقي مع عمرو بن هند على شاطئ نهر الفرات ولما سمع باستخفاف أم الملك بأمه ليلى بنت المهلهل الزير سالم اختطف سيف الملك نفسه وقطع به رأسه فهل يتعظ حكام العرب في هذه الأيام من نهاية الملك عمرو بن هند؟ أم سيغري تكبرهم وتغطرسهم أمثال عمرو بن كلثوم للقيام بواجبهم في تخليص القبائل العربية من التبعية للغريب والتجبر على القريب؟