من باتريوت إلى ليوبارد… الغرب إذ يستخف بالحروب

  • PDF

بقلم: عمرو حمزاوي
لنا إذا نظرنا إلى مجمل المشهد السياسي العالمي أن نتحدث عن لحظة أزمة حقيقية تعتري علاقة الدول بمجتمعاتها ومواطنيها جوهرها إما اختلال متعدد المستويات لعقد اجتماعي متوازن تبلور واستقر بمراحل سابقة أو استمرار لغيابه في ظل صراعات متواترة تعصف بأسس العيش المجتمعي المشترك.
ديمقراطيات أمريكا الشمالية وأوروبا وبعد حقبة طويلة استقر بها عقد دولة الرفاه الاجتماعي وجمعت بصياغات مختلفة بين مكونات ثلاثة هي التزام اقتصاد السوق وضمان عدالة الحد الأدنى وممارسة الحريات المدنية والسياسية تعاني اليوم من اختلالات حقيقية تعمق من آثارها الأزمة الاقتصادية العالمية وتطال دور الدولة وحدود مسئولياتها في إدارة اقتصاد السوق والخيط الناظم لعلاقتها بالمجتمع والمواطنين.
فقد أخذت الهوة الفاصلة بين دخول الشريحة العليا من أغنياء الولايات المتحدة وبين حظوظ بقية السكان من الثروة في الاتساع منذ الثمانينيات مع تراجع دور الدولة الضامن للعدالة التوزيعية وتغير النظم الضريبية لصالح الأغنياء لتصل إلى معدلات غير مسبوقة.
وفقاً لإحصائيات عام 2007 يستحوذ ما لا يزيد عن 10 في المئة من الأمريكيين على أكثر من 70 في المئة من ثروة المجتمع تاركين ما يقل عن الثلث لأغلبية ساحقة (90 في المئة) من الفقراء ومحدودي ومتوسطي الدخل.
هنا تكشف مقارنة سريعة مع معدلات السبعينيات وخلالها لم يتجاوز نصيب الشريحة العليا من الثروة 30 في المئة عن راديكالية التحولات المجتمعية التي تشهدها الولايات المتحدة في ظل تراجع دور الدولة وتوحش اقتصاد السوق. وقناعتي أن القوة العظمى وسياسات أوباما خلال الأشهر الأولى تذهب في هذا الاتجاه لن تخرج من أزمتها الاقتصادية إلا بإعادة شيء من دور الدولة إلى السوق وإلى المجتمع شيء من العدالة التوزيعية بين الأغنياء والفقراء.
وإذا ما استثنينا النماذج الراقية للعدالة الاجتماعية في الدول الإسكندنافية يتشابه التطور المعاصر لمجتمعات غرب أوروبا مع الخبرة الأمريكية وإن اختلفت النسب والمعدلات. فعمليات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي وكف يدها العادلة عن اقتصاد السوق والتي دشنتها أوروبياً رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (1979 – 1990) واتسع نطاقها تدريجياً ليشمل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وتعاقبت على تطبيقها حكومات يمين ويسار أخلت بتوازن المجتمعات الأوروبية وأفقدت النخب الشيء الكثير من شرعية القبول الشعبي. خلال العقدين الماضيين وكما أظهرت بيانات إحصائية ومسحية مختلفة ارتفعت معدلات تركيز الثروة بمعظم الحالات الأوروبية على نحو عمق من الفوارق الطبقية وقلص من المساحة التي تشغلها الشرائح متوسطة الدخل بالخريطة المجتمعية وجعل من الفقر ظاهرة متنامية.
*الفوارق الطبقية 
ومع أن الحكومات الأوروبية وعلى نقيض الخبرة الأمريكية لم تتبع تفكيك دولة الرفاه بانتقاص جوهري في الحريات المدنية والسياسية ارتبط أمريكيا بممارسات إداراتي بوش 2000-2008 إلا أنها أضحت هي الأخرى تعاني من أزمة شرعية يسهم في تكريسها إن فضائح فساد متتالية أو تحالفات عضوية بين السياسة والمال أو غياب شبه تام للاختلافات الفعلية (أي البرامجية) بين قوى اليمين واليسار يرتب عزوف المواطنين عن السياسة وفقدان ثقتهم بمن يمارسها.
وما التنامي اللافت لظواهر مرضية كالعنصرية والشعبوية والعنف وجميعها مرشح للتصاعد في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية سوى تعبير عن الاختلال المستمر في العقد الاجتماعي الضابط لعلاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين وعجز الأوروبيين عن صياغة لحظة توازن جديدة وشرعنتها توافقيا.
إن كانت هذه هي وضعية الديمقراطيات الغنية بالغرب اليوم وهي تواجه الأزمة الاقتصادية الأعمق منذ كساد ثلاثينيات القرن الماضي والأزمات الاجتماعية والسياسية الكثيرة التي تحيط بها فكيف سيكون حالها خلال السنوات القادمة وهي تتورط في سباقات تسلح منفلتة ومحفوفة بالمخاطر؟ فقط أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية سباقا لتوريد السلاح إلى الأراضي الأوكرانية وسباقا للضغط على الأوروبيين لتوريد السلاح (الضغوط الأمريكية الراهنة على الحكومة الألمانية لتقديم دبابات ليوبارد 2 للجيش الأوكراني مثالا) يهدد السلم والأمن العالميين ويدفعهما إلى حافة هاوية غير مسبوقة منذ عقود طويلة.
يحدث هذا بينما يتملص الأمريكيون والأوروبيون من التزاماتهم المالية للتعامل مع التغير المناخي وتداعياته شمالا وجنوبا.
يحدث هذا ونحن في معية أخطار كبيرة تحيط بالغرب وأخطار أكبر يواجه هو بها العالم بينما تنفتح قواه على استخدام الأدوات العسكرية لتسوية الصراعات والنزاعات وتستخف بالحروب وسباقات التسلح وتداعياتها.