فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ الجزء الثاني والخمسون بعد المائة

  • PDF

في مدينة الأبيض سيدي الشيخ
فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ
الجزء الثاني والخمسون بعد المائة
بقلم: الطيب بن ابراهيم
*المنصّرة مادلين أوتان 1898 - 1989  
+ صورة: مادلين أوتان في الأبيض سيدي الشيخ سنة 1948
وُلدت مادلين أوتان Magdeleine Hutin بتاريخ 26 افريل سنة 1898 بباريس وهي من عائلة مسيحية كاثوليكية فرنسية ذات أصول بلجيكية   تعود عائلتها الفقيرة لقرية سوزاي بمنطقة اللورين بالقرب من الحدود الألمانية الفرنسية. تابعت مادلين دراستها بكل مراحلها الأساسية بباريس. وأثناء الحرب العالمية الأولى فقدت مادلين جدتها وإخوَتَها وأختِها وبقيت وحيدة لأبويها تعاني من المرض ليتوفى بعد ذلك زوجها سنة 1928 فأثّر ذلك عليها نفسيا وانعكس على حياتها لاحقا. 
بعد أربع سنوات من اكتشفت مادلين أوتان المنصر الكبير الأب شارل دي فوكو سنة 1921 كأحد كبار القديسين الفرنسيين المعاصرين بدأت المراحل الأولى لمشروعها التنصيري في الصحراء الجزائرية تتبلور منذ سنة 1925 خاصة بعد تعرفها على قس إرسالية الأبيض سيدي الشيخ الأب روني فوايوم حيث أعلنت عن مشروعها التنصيري رسميا سنة 1936 وليتحقق لمادلين الحلم الذي طالما حلمت به وهو أن تنتقل لأرض الإسلام لتنصير المسلمين ولتصبح أوتان إحدى شهيرات مشروع التنصير الفرنسي في صحراء الجزائر في عهد الاحتلال.
*مادلين والأب شارل دي فوكو 
تعرفت مادلين أوتان على رائد التنصير بالصحراء الجزائرية الأب شارل دي فوكو سنة 1921م عن طريق ما كتبه عنه الكاتب الكبير روني بازانRené Bazin حالها كحال زميلها روني فوايوم فقررت مادلين إتباع نهج وطريقة شارل دي فوكو التنصيرية في الصحراء الجزائرية وانضمت للأخوات البيض بالجزائر صاحبات الخبرة والدراية وأصبحت مادلين تسمى بأخت يسوع الصغيرة. 
منذ أن اكتشفت مادلين شارل دي فوكو شيخ منصري الصحراء أصبح يمثل مثلها الأعلى في حياتها وبدأت تتولّد لديها الرغبة في أن تسير على دربه وتحمل مشروعه وأن تعيش مثله بين فقراء الصحراء. فاهتمت به ودرست كل شيء عن حياته الدينية والاجتماعية والثقافية وحرصت على تتبع كل خطواته وقامت بزيارة معظم أماكن تواجده في حياته سواء في الجزائر أو خارجها خاصة في بيت لحم بفلسطين. وهكذا بدأت أحلامها تكبر يوما بعد يوم للعمل في صحراء شمال إفريقيا بين المسلمين من سكان البدو الرحل. 
ولتحقيق أحلامها التقت مادلين مع المسئول الأول والمخول قانونا بالسماح لها بذلك وهو ممثل الفاتيكان المونسنيور غوستاف نوي المحافظ الرسولي المقيم بغرداية حيث أطلعته على مشروعها التنصيري في الصحراء الجزائرية ووافقها على ذلك.
*مادلين والقس روني فوايوم 
بدأت مادلين أوتان تفكر جادة في اللقاء بالزعيم الديني المغامر القس روني فوايوم رئيس أول إرسالية لتلامذة شارل دي فوكو بمدينة الأبيض سيدي الشيخ لتكون هي لاحقا أول مؤسسة لأول إرسالية تابعة لأخوات يسوع الصغيرات التابعة لدي فوكو أيضا وتحقَّقَ حلمها يوم 18 مارس سنة 1938 في مدينة المنيعة بالصحراء الجزائرية حيث التقت لأول مرة مع الأب روني فوايوم الذي حلّ بالمنيعة قادما لها من الأبيض سيدي الشيخ على ظهور الجمال في رحلة دامت اثنى عشر(12) يوما مرتديا عباءته الصوفية. وخلال هذا اللقاء التعارفي بينهما اتفقا على لقاء ثاني بينهما لاحقا في مدينة الأبيض سيدي الشيخ في صيف سنة 1938م.
وتم اللقاء الثاني بينهما في مدينة الأبيض سيدي الشيخ يوم 31 ماي سنة 1938 بعد شهرين من لقائهما الأول حيث استضافتها إرسالية الأبيض ومنحتها الإقامة في المستشفى القديم الذي أقامت به الأخوات البِيض سابقا وهنا أعجبت مادلين أكثر كما تقول بحياة التقشف والفقر التي يعيشها تلامذة دي فوكو في الأبيض سيدي الشيخ والتي عاشها شارل دي فوكو  قبلهم وعبرت عن إعجابها بكنيسة الأبيض وبالصلاة بالعربية بها وبعد أسبوع من الضيافة غادرت الأرملة مادلين الأبيض بعد أن أعربت عن إعجابها واقتناعها بعمل زميلها فوايوم وطلبت منه تقديم المزيد من المحاضرات للإخوة والأخوات. وفي أقل من سنة أعلنت مادلين عن تأسيس أول إرسالية لأخوات يسوع الصغيرات  Les petites sœurs de jésus بالجزائر في مدينة توڨرت سنة 1939م اقتداء بما فعله زميلها في الأبيض وكلاهما فضل أماكن في الصحراء كما فعل شيخهم دي فوكو.
*تنقلات وأسفار مادلين والأب فوايوم
قام روني فوايوم وزميلته مادلين أوتان بزيارة عدة بلدان عربية شرق أوسطية خلال سنة 1948 وذلك للتشاور وتبادل المعلومات والخبرات مع الإرساليات بهذه الدول. كانت انطلاقة زيارتهما لمصر ابتداء من 26 ماي إلى 26 جوان سنة 1948 ثم زيارتهما للبنان في جوان 1948 م وواصلا زيارتهما لفلسطين في نهاية شهر جوان وبداية شهر جويلية سنة 1948 وفي فلسطين زارا المدن والأماكن والغرف التي كان يقيم بها شيخهما شارل دي فوكو أثناء رحلته لفلسطين. وختما هذه الجولة بزيارتهما للأردن في جويلية سنة 1948 قبل عودتهما لروما في نفس الشهر سنة 1948 ومن روما لفرنسا بداية من جويلية إلى غاية سبتمبر سنة 1948 وهو بداية الموسم الجديد للعمل حيث عادت مادلين للجزائر دون أن ننسى زيارتهما المتكررة فرادى للمغرب وتونس عدة مرات.
بالإضافة لذلك هناك تنقلات ورحلات المنصرَيْنِ روني فوايوم ومادلين إلى بقية دول العالم من كندا وألاسكا شمالا إلى جنوب شرق آسيا جنوبا مرورا بدول أوربا الشرقية والغربية آنذاك. إنها المرأة التي تجاوزت الخمسين من عمرها وكانت تجوب الصحراء الجزائرية سيرا على الأقدام والجمال قاطعة مئات الكيلومترات والقائلة: على المنصِّر أن يكون عربيا بين العرب وأن يكون بدويا بين البدو وأن يكون عاملا بين العمال .  
كان لمادلين قناعة وإصرارا على أن التنصير يجب ألا يقتصر على الرجال دون النساء خاصة في مجتمع صحراوي بدوي محافظ يتعامل فيه الرجال مع الرجال والنساء مع النساء فلا بد من تأسيس إرسالية خاصة بتنصير النساء. هذا ما أطلعت عليه مادلين روني فوايوم وأخبرته بمشاريعها المستقبلية وقبل افتراقهما اتفقا على إبقاء الاتصال والمراسلة بينهما.
*مادلين واللقاءات مع البابا بيوس الثاني عشر 
أصبح نجم مادلين يسطع شيئا فشيئا وأصبحت دائرة شهرتها تتسع كمؤسِّسة لأول إرسالية تنصيرية تابعة لأخوات يسوع الصغيرات في شمال إفريقيا وكنجمة واعدة في عالم التنصير وخدمة مصالح الكنيسة لتصبح لاحقا رئيسة لعدة إرساليات دينية بلغ عددها سنة 1947م خمس إرساليات وبعد سنتين أصبح عددها ثلاث عشرة إرسالية وأصبحت مكانتها العالمية تنمو يوما بعد يوم. 
إذا كان الآلاف من القساوسة والأساقفة عبر العالم لا يحظون بمقابلة الحبر الأعظم والجلوس مع البابا شخصيا فإن ذلك الشرف حظيت به منصرة صحراء الجزائر مادلين أوتان أكثر من مرة وأصبحت تراسل البابا شخصيا وتعبر له عن سعادتها لتكون في خدمة الكنيسة وبعد تعرف الفاتيكان على ما تقوم به هذه المرأة من جهد ودعم للإرساليات والجمعيات التنصيرية بين المسلمين في صحراء الجزائر الفرنسية بعد ذلك أصبحت المراسلات تتم بينها وبين البابا بيوس الثاني عشر Pape Pie XII مباشرة ثم تشرفت بلقاء البابا ثلاث مرات وهذا ما لم يحلم به غيرها فالمرة الأولى كانت بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1944م بمناسبة أخذ التبريكات لها ولزميلاتها الاثنتي عشرة المؤسسات للإرساليتين والمرة الثانية كانت سنة 1947م عندما بلغ العدد خمس إرساليات وأربعين منصرة والمرة الثالثة تمت بتاريخ 8 أوت سنة 1949م وقد بلغ عدد الإرساليات ثلاث عشرة إرسالية وخمس إرساليات في الطريق وكلهن على خطى وأسلوب منصر الصحراء شارل دي فوكو. 
يتبع...