في إشكالية التراث والانفتاح على الغرب

السبت, 12 مايو 2018


بقلم:  الدكتور وليد بوعديلة *
لقد أنجز الزمن  الثقافي العربي القديم مشاريعه وأبدع نصوصه ومنح للذاكرة الأسمـاء والتجارب والإبــداعات وكشف لنا الاختلافات في وجهـات النظر وأبعاد التأمل كما وقع عند التناول العلمي للقرآن وللشعر العربي وهو ما عرف بصراع واختلاف المذاهب والتوجهات النقدية بين البلاغيين والفلاسفة أو بين علماء الكلام وأصحاب المذاهب.. فما هو شأن الزمن الفكر والادبي العربي المعاصر؟.
     ولا يمكن البحث في قضايا الفكروالثقافة بمعزل عن الحركية الاجتماعية والتاريخية لأن الإشكالية التي يتحرك في مدارها فكر ما ليس قوامها ميتافيزيقا معرفية ـ إن جازت العبارة ـ أو هوية معرفية ثابتة عصية على التحول وتقع خارج شروط التاريخ إن التاريخ هو الذي يصنعها على تلك الهيئة ومع أن تطورها فيه لا ينفي تمتعها بقدر عظيم من التماسك الداخلي والوحدة النظرية المستقرة نسبيا ولهذا فإن البحث في جدلية الأنا والآخرلا يتحقق لنا بالعودة إلى جزئيات الموروث أوالتعمق في حركية الحضارة الغربية فحسب لأن المطلوب هو الربط بين حركية المجتمع العربي الراهن وقيمه الموروثة من جهة والبحث النقدي في طبيعة الإشكاليات التي تقدمها العودة إلى المرجع أو عملية الحوار مع الآخر في السياق العربي من جهة أخرى من دون إغفال المجهود التنظيري المحترم للأسلاف.
الفكر العربي والانفتاح :
عندما نبحث في الأفكار وحضورها الاجتماعي لا يمكن تجاهل الإسهام الفلسفــي للمفكر مالك بن نبي لأنه قد جعل من كتاباته حوارا مع المجتمع بطريقة حضارية وفلسفية يتساءل عن التخلف والتقدم في إطار الفكر والقيم وقد توصل إلى أن هناك في الواقع علاقة جدلية بين الأفكار والأحداث الاجتماعية والسياسية في كافة مراحل التاريخ وفي هذه العلاقة تتجسد أسئلة المرجع والانفتاح على الآخر لأنـها أسئلة تفتح فكريا ومعرفيا وتجد حضورها الاجتماعي والسياسي وهنا تتداخل الأفكار والبدائل بين غارق في التراث أو منبهر بالآخر أو باحث عن التوسط والاعتدال.
وفي أقصى حالات البحث عن الحداثة والانفتاح على الآخر لم يغب التراث لأن الاشتغال النقدي على خطابات التنوير والتأويل والتحديث يحتم تقديم الموقف من خطابات التراث والأصول والثوابت وهكذا يستمر الحضور القوي لخطاب التراث في داخل خطاب الحداثة كمشروع يمكن إنجازه أو هو قيد الإنجاز وقد حاول خطاب الحداثة أن يبحث في التراث عن مراجع وأصول وأفكار لفرضياته وإن تأثر بثقافة شبه سائدة تلهمها عناصر فكرية ورمزية وسياسية تنتمي إلى الخارج أو الآخر أو الغرب وعكست منتجاته أشكالا من الوعي تتوتر بين العلاقة مع الداخل من جهة والعلاقة مع الخارج من جهة أخرى  
ونؤكد هنا أن التراث لا يتخذ خطا واحدا فهو متنوع ومتعدد وقد عرف النقد العربي القديم الكثير من الاختلافات حول الشعر والشعراء وبرزت أسماء تحافظ على الموروث الشعري وتلتزم بعمود الشعر كما برزت أسماء رفضت النمطية والجمالية الجاهزة أو تلك الموروثة عن أزمنة سابقة والمسألة لا تقتصر علــى المستوى الشعري فقط فهي تشمل الفلسفة والتفسير وغيرهما لذلك نجد محمد أركون يدعو إلى الالتزام بمشروع تاريخي لإحياء التراث لإنقاذ الفكر العربي من قيود الماضي وسجون الحاضر والسلطات الغيبية ويلاحظ أن كل من حاول أن يميز بين الفكر العربي والفكر الإسلامي مضطر إلى معالجة مشكلة التراث ويمتد مجال الفكر العربي ـ برأيه ـ إلى ما اكتشفه الفكر الإسلامي من آفاق وأنتجه من آراء ومذاهب وتيارات فكرية في مرحلة التكوين والتدوين الرسمي وهي آفاق تعود إلى التفاعل مع حضارات أخرى وإلى حركية التأليف والترجمة التي نشطت زمن النهوض الثقافي في العهد العباسي الأول.
ومن إشكاليات العودة إلى المرجع ـ التراث ـ والانفتاح على الآخر نجد إشكالية التساؤل عن حضور التنظير اللساني والشعري في تراثنا وقد أنجزت الكثير من الأبحاث حول هذا الجانب كما هو الشأن مع الإسهامات التي قدمها الجاحظ في القضايا اللسانية والبلاغية والأدبية حيث اهتم بنظرية الكلام ونظرية المنازل الخمسة واللغة واللفظ والمعنى وغيرها وهذه المجلات تؤكد حرص الجاحظ على العلمية فهو يعتمد في كثير من الحالات على التجربة العقلية والممارسة الحقة لكنه ناشئ بالخصوص عن تصور شامل للكون ومستمد من معطيات نظرية متمسكة تمسكا غريبا بالقوانيـن الطبيعية   
إن البحث الموضوعي في التراث يبعد احتقار الذات أو الشك في المخزون النقدي والإبداعي للتراث بل إن هذا الفعل المعرفي يمنح الثقة للباحث ويجعله يتجه نحو الآخر من غير نقص فكري أو هشاشة على مستوى التصور وإذا كان التواصل المعرفي بين الأجيال والعصور والثقافات قد صار محل إيمان واهتمام ودعوة من العالم الحديث فإن التواصل مع قلب الأمة ورحم الحضارة وعصرالإبداع والمجد هو الأولى بأن يصير لدى المثقف العربي محل إيمان ودعوة واهتمام قصد تجاوزاللحظة التاريخية المتأزمة نتيجة حركية العولمة وارتفاع أصوات الذوبان في الآخر ونسيان الهويات والمرجعيات. 
وعندما تحقق التفاعل بصورة قوية في القرن العشرين بدأ النقد العربي يطبق الأدوات الإجرائية الغربية على النصوص العربية فتحققت الاستفادة من الأدوات الداخل نصية والخارجية من غير البحث ـ غالبا ـ في الجذور والخلفيات الفلسفية والحضارية التي أنتجت المنهج النقدي وبعد سنوات من التطبيق بانت العيوب والسلبيات وارتفعت أصوات الاعتراف بالأزمة النقدية مثل أزمة المنهج البنيوي ولم يقتصر هذا الاعتراف من الأنا النقدي فقط بل إن الآخر كذلك اعترف بالأزمة لأن هوية النقد البنيوي تجعل من النصّ ـ الإنسان آلة تسلب الذات الإنسانية وتنغلق عن التاريخ والمجتمع عبر الانطواء على البنية اللغوية وعدم التواصل مع السياق الخارجي.
ويفتح الحوار بين الثقافة العربية والغربية سؤال المصطلح وهو سؤال مهم جدا ضمن الأبحاث النقدية لأنه يختصر المفاهيم ويمنح القراءة الطابع العلمي كما أصبح المصطلح محط اشتغال الكثير من الدارسين لوعيهم بضرورته في أي علم يراد دراسته لأن المصطلحات مفاهيم العلوم فنحن لا نسائل هذه العلوم بقدر ما نسائل أجهزتـها المفاهيمية وقوائمها المصطلحية فالمصطلح نحيا به فهما ويحيا بنا وضعا  
وهنا بدأت الحركية الترجمية في عملها وفتح النقاش مجددا عن أسئلة العلاقة مع الغرب وشمل البحث الترجمي والنقدي مجموعة من المصلحات مثل: التناص الخطاب الشعرية البنية التلقي..وأخذت الندوات والملتقيات والمجلات والمجامع اللغوية تـهتم بالمصطلح وتقدم البدائل وظهرت توجهات ترجمية هي المترجم التحصيلي المترجم التوصيلي المترجم التأصيلي
لقد تمت العودة البحثية إلى التراث في سياقات مختلة وكثيرة ونكتفي بالإشارة إلى العودة الباحثة عن السيميائية في التراث العربي فقد توالت الأبحاث التي تكشف الأسبقية العربية في الحديث عن العلامة بالعودة إلى كتابات الجاحظ الجرجاني الغزالي ابن سينا .. وإنا نتساءل هنا: هل ننتظر دائما من الآخر أن يبدع ويبادر بطرح الأفكار والمشاريع النقدية والمصطلحات لننطلق نحن في البحث داخل تراثنا عن نقاط تشابه أو اقتراب أو حتى سبق نقدي أو مصطلحي في علاقتنا مع البحث الفكري واللغوي والأدبي  المنجز من الغرب ؟.
هذه بعض الأسئلة التي يواجهها الباحث في الحوارية الثقافية بين الأنا (التراث ـ العرب) والآخر (التراث ـ الحداثة ـ الغرب) تمتد لتشمل كل أركان الفعل النقدي والممارسة الفكرية كما يشمل تأثيرها المساحات الاجتماعية المرتبطة بالإنسان العربي لا الحوار والتفاعل مع الآخر لم يكن في المستويات الاقتصادية فحسب ومن ثمة كان من الضروري أن نفتح مخابر بحثنا لمساءلة كل الإشكالات وإيجاد الأجوبة في عالم متغير لا يعترف بالثبات والجمود.
الذات الثقافية والبدائل :
لا يمكن أن نتجاهل ما قدمه العرب من إسهامات فكرية ونقدية امتزج فيها اللغوي مع الديني ليشكلا هوية عربية إسلامية وقد حاول الباحث عبد العزيز حمودة تتبع الآراء والأفكار النقدية العربية في كتابه المرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية من خلال البحث في قضايا الحداثة والقطيعة مع التراث ومحاولة إنجاز حصر معرفي للنظرية اللغوية العربية والنظرية الأدبية العربية.
لقد وجد عبد العزيز حمودة أن التغييرات التي أصابت المجتمع العربي قد فرضت عليه بل إن التحولات لم تحترم الخصوصية الثقافية صحيح أن بعض هذه التحولات عندما جاءت جاءت تحقيقا لإرهاصات شعبية مسبقة لكنها لم تتحقق في نـهاية الأمرإلا على يد سلطة سياسية أو عسكرية بالإضافة إلى أنـها تحولات مستعارة من جماعات تختلف عن تراكيبها الاجتماعية والاقتصادية عن تركيبة مجتمعنا وهنا لا يفصل الباحث بين القرارالسياسي وتأثيراته الاجتماعية ثم إفرازاته الفكرية والأدبية ويعطينا مثالا عن فتح السوق أمام قوى الإنتاج والاستهلاك أو غلقها أمامها وتوجيه الإنتاج وترشيد الاستهلاك.
ويتجه ـ بعد البحث في الحداثة العربية ـ إلى دراسة التواصل مع التراث مؤكدا على أن التحول في اتجاه الحداثة ثم ما بعد الحداثة الغربيتين خلف الفراغ بقدر ما أكده فشعارالقطيعة المعرفية مع التراث خلف فراغا أدى إلى تبني الفكر الغربي كبديل لملء الفراغ الجديد وفي الوقت نفسه فإن التحول الحداثي كان يعني خلو الساحة الثقافية العربية من فكر لغوي ونقدي ناضج وهو ما يحاول عبد العزيز حمودة نفيه مقدما النظرية النقدية العربية في أبعادها اللغوية والأدبية.
تتمظهر النظرية اللغوية العربية عبر جملة من الأركان و لو استمر العقل العربي في مساره لكان قد استطاع تطوير نظرية لغوية أكثر علمية وأكثر تركيبية من أي نظرية لغوية بلاغية قدمها القرن العشرون في أوروبا وأمريكا ثم إنه لو أن العقل العربي في بداية عصر النهضة في أوائل القرن العشرين استطاع كما فعل العقل العربي في عصر نـهضته ـ أن يتخطى إنجازات الحضارة اليونانية لكان العقل العربي قد نجح في تطوير مثل تلك النظرية اللغوية المتكاملة  
و إذا كانت بعض الأصوات البحثية تنفي الابتكار لدى الفعل النقدي واللغوي العربيين فإن البحث التاريخي والكشف العلمي الموضوعي يخالفان هذه الأصوات كما أكد على هذه الحقيقة محمد عابد الجابري في سياق دفاعه عن نظرية النظم عند الجرجاني فالجرجاني فكّر فيها داخل الحقل البياني موظفا معطيات هذا الحقل مستجيبا لاهتماماته معبرا عن مرحلة من مراحل نموه نمو الوعي بالذات أما المنطق اليوناني فلم يكن له أثر في هذه النظرية بل لقد جاءت هذه النظرية تتويجا لتيار فكري نشأ وتطور وأخذ يتبلور ويتميز من خلال طرح نفسه بما هو أنا عربي إسلامي بديل عن الآخر اليوناني الدخيل  
وكي لا يمتد بنا البحث إلى جزئيات بعيدة عن مقصد هذه الورقة فإن عبد العزيز حمودة يقدم لنا أركان النظرية اللغوية العربية وهي :
1 ـ اللغة العربية كنظام 2 ـ الكلام واللغة  3 ـ ثنائية اللفظ والمعنى .
وضمن هذه الأركان يتجه حمودة إلى كتابات الجاحظ القرطاجني الجرجاني السكاكي .. وغيرهم .
ويتناول النظرية الأدبية العربية انطلاقا من سؤال جوهري : هل أفرز العقل العربي ـ في أثناء العصر الذهبي للبلاغة العربية ـ نظرية أدبية ؟ وفي سياق البحث في الجذور البلاغية والأدبية العربية نكتشف أزمة المصطلح الناتجة عن تعدده مع تداخل المصطلحات حول المفهوم الواحد ومع هذا فقد ظهرت دراسات عربية معاصرة تبحث في أسئلة التنظير اللساني والشعري في التراث العربي وذلك بملاحقة مختلف الإشارات والدلالات التي يحملها المصطلح الواحد. ومن ثمة فإن المجال يطول عندما نفتح أسئلة العلاقة بين العرب والغرب في مجال النقد الأدبي والأبحاث اللغوية والبلاغية وغيرها من مجالات التفاعل في العلوم الإنسانية.
وعندما نعود إلى عبد العزيز حمودة نجده يدرس التفكيرالنقدي العربي تحت عنوان: النظرية الأدبية العربية وأركانـها :
1 ـ الأدب بين المحاكاة والإبداع  2 ـ الإبداع باللغة  3 ـ الصدق والكذب  4 ـ السرقات الأدبية/ التناص   5 ـ الموهبة والتقليد    6 ـ الشكل والمضمون.
في الختام:
    إن موضوع العلاقة بين التراث والحداثة أو إنجاز مباحث للحوار والتفاعل بين المنجز العربي والمنجز الغربي  هو موضوع متعدد الابعاد ويحتاج لتأملات كثيرة ويمكن مثلا  أن نضيف أركانا أخرى للتنظير الابي العربي تمتد إلى آفاق فلسفية وبلاغية وتبليغية أسهم فيها الجرجاني الجاحظ الفارابي ابن سينا.. وغيرهم من النقاد والفلاسفة وقد كانت مباحثهم متسعة في مصطلحاتـها واهتماماتـها كما هو شأن البحث في المتلقي حيث تتجلى المعطيات الأساسية المبينة لمنزلة المتقبل داخل النصّ في بعض الحدود التي وضعها البلاغيون والنقاد القدامى لمفهومين مركزيين في جهازهم الإصطلاحي وهما مفهوم البلاغة ومفهوم البيان  
لقد بدأت عند العرب حركية بحثية علمية تـهتم بأبعاد العلاقة بين الدراسات الأدبية واللغوية العربية والغربية كما تنجز قراءة اكتشافية جديدة للموروث بخاصة في بعده اللغوي وذات الإشارات إلى الإضافات الموجودة في التراث والممارسات النقدية الموجودة عند الآخر تتجلى في كثير من المواقف العلمية .
* استاذ بجامعة سكيكدة