رسائل حضارية يابانية من ماسارو إيبوكا وسواشيرو هوندا!

الخميس, 21 أبريل 2022

بقلم: عبد الباقي صلاي*
كثيرة هي الرسائل التي يحملها اليابان للعالم في شتى المجالات فمن يقول اليابان يقول القوة والإرادة والعزيمة والمثابرة والنجاح في تخطي الصعاب والخروج من تحت أكوام الرماد.
اليابان هو الدولة القوية التي علمت العالم كيف يكون التقدم والازدهار دونما موارد طبيعية ولا مداخيل خارجية.كل ما هنالك فقط يعتمد على القدرات العقلية والتفكيرية لكل ياباني.
وكل ياباني يعيش على الرقعة الجغرافية لليابان يحمل في قلبه مشروعا يخدم به أمته فكل ياباني له من الإنجازات يجعلها مسخرة لليابان ليصعد بها نحو المجد والسؤدد.
ولو أحصينا من العقول العظيمة التي نهضت باليابان فل نقف عند الملايين ولن نستطيع إحصاء العدد بالشكل المطلوب وكما ينبغي لكثرة الأسماء التي حركت عجلة الحضارة في اليابان وبنت أسوارها.من الأسماء الكبيرة التي لا يمكن لأحد أن يجهلها ماسارو إيبوكا و سواشيرو هوندا هذان الإسمان لهما وقع خاص لدى اليابانيين ولغير اليابانيين لما يحملانه من قوة في التأثير وفي التاريخ الحضاري لدولة اليابان.
ولكل إسم من بين هذين الإسمين قصة وما أكثر القصص التي لو جمعناها لما استطعنا أن نصف ما نود قوله في بناء الحضارة اليابانية.الرسالة الأولى مع ماسارو إيبوكا صاحب ماركة سوني الذي يفصل في قصة النهوض الياباني الذي يرجع لقوة عقل الإنسان الياباني الذي يحمل من الصغر بذور النبوغ والذكاء الخارق والانتماء للأمة اليابانية. يقول ماسارو إيبوكا: أتذكر أني أخذت أحد أحفادي وعمره سنتان إلى نافذة شقتي.فمد يده الصغيرة صوب مصابيح النيون في الشارع وقال لي بفخر: هذه هيتاشي ! وهناك توشيبا !وكنت فخورا بأن حفيدي استطاع وهو بعد في الثانية من معمره أن يقرأ كلمات مثل هيتاشي وتوشيبا بالأحرف اليابانية وقلت في نفسي: أين استطاع إذن أن يتعلم القراءة على هذا النحو.ولما سألت والدته فهمت أن الولد لم يتعلم أن يقرأ إطلاقا وأنه يتعرف على إشارات النيون ويستطيع أن يميزها بالإسم.هذه التجربة علمتني كيف أنه يمكن حتى قبل تعلم الأبجدية أن يبدأ الإنسان إمداد الحاسبة في دماغه مجموعة كاملة من الإشارات المميزة التي توقظ الذكاء وتدفعه في سبل غير سبله المعهودة .ولو نتأمل هذه الرسالة نجد أن النبوغ يكمن في العقل الباطن للفرد ويجب أن يدعم من قبل محيطه في الدرجة الأولى. فحب الوطن وخدمته يجب أن ينبع من الذات أولا والطموح ثانيا والعمل ثالثا.
الاسم الثاني هو سواشيرو هوندا الذي يتحدث عن نفسه من خلال تجربة له وهو مايزال صغيرا غضا غريرا. يقول هوندا: في الزمان الماضي لم يكن ثمة محرك كهربائي وكان الناس يستخدمون محركات تعمل بالنفط لينظفوا الأرز الذي سيأكلون وكنت أنا صغيرا وكان ثمة مطحنة لتنظيف الأرز بالقرب من بيتنا.وكنت استمع إلى الصوت المنتظم لهذا المحرك: بوم بوم بوم بوم...وتعودت هذا الصوت شيئا فشيئا وكنت أحيانا أقترب من المحرك لأستمع إلى صوته على نحو أفضل. وعندما كان جدي يرفض أخذي إليه كنت أبكي بحرارة.كنت أبكي بقوة حتى يسمعني كل من في الجوار وكنت أجد دائما من يأتي ويوافق على أخذي إلى مصدر الصوت.وشيئا فشيئا أخذت أحيا مع صوت البوم بوم الذي أصبح جزءا من بيئتي المعتادة مع رائحة الاحتراق في المحرك أيضا.وهكذا أخذت أحب فعلا الضجيج والرائحة معا وقررت يوما أني سأنصرف إلى صناعة الدراجات النارية ما أن أتمكن من ذلك
يقول عنه أصدقاؤه سواشيرو هوندا : صحيح إنه يضحك في كثير من الأوقات حتى أن المرء عندما يتعرف عليه كثيرا ويستمع إليه طويلا ويزوره في مصانعه ويقابله في إطار عائلته يلاحظ أنه يضحك لكل قول.لأن كل شيء يسليه والحياة تبدو له فاتنة.وهو يتدبر أمره لتظل على هذا النحو.
إن العشاء عند هوندا هو لحظة ممتعة كما أنه إذا تحدث المرء مع هوندا عن طريقته الشهيرة المطبقة في مصانعه حيث يكون كل عامل مسؤولا شخصيا عن جودة ما ينتجه وعن كل قطعة وحيث يستطيع كل عامل بضغط بسيط على زر أبيض أمامه أن يوقف عمل كل المصنع إذا كان العامل يعتقد بأن القطعة ليست ممتازة فإن هوندا يأخذ في شرح أن ذلك ليس كابحا للإنتاج بل هو على النقيض من ذلك التنظيم الذي سمح بتحقيق النجاح عن طريق ضمان تلك الجودة التي لا تشوبها شائبة في دراجاته والتي تسببت في شهرتها.إن حلقات مراقبة الجودة التي تكمل التكنولوجيا وهي إحدى أسرار الإنتاجية اليابانية.في اليابان الآن مائة ألف حلقة تضم العمال والمديرين الذين يعملون بشكل جماعي لتعيين حلول لمشكلات الإنتاج وتحسينه المستمر.
هوندا نجح إلى أبعد حد لأنه وضع ثقته في عماله فهو مدين لعماله بالدرجة الأولى.وبفضلهم أصبحت دراجاته أفضل دراجات في العالم.ولهم إذن يدين بكل شيئ.وهو يمضي حتى النهاية في منطقه الإنساني والصناعي والفلسفي إلى حد أنه حرم عائلته من الميراث.
وهو يقول ذلك ببساطة على الطاولة أمام زوجته وإبنه البالغ الثانية والثلاثين من العمر والذي جاء ليتعشى مع ذويه.هذا الولد اضطر إلى أن يؤسس شركته الخاصة.فقد رفض هوندا أن يوظفه عنده ولم يساعده حتى في تجميع رأس مال لإنشاء شركته ويقول ذلك ضاحكا: أترى لن يحصلوا على شيء إطلاقا كل هذا ليس ملكي.إذن فهو ليس ملكهم أيضا.إن هذا هو ملك للذين صنعوا جودة هوندا.ماذا صنعت زوجتي من كل ذلك؟وإبني أهديته أجمل هدية يمكنني أن أهديه إياها: أجبرته على أن يصنع حياته بنفسه دون أن يكون مدينا لي بشيئ.تصوروا ماذا كان يمكنه أن يصبح لو أنني دللته !.
إن سذاجة رجل مثل إيبوكا و هوندا بالمعنى الأصلي للكلمة وسذاجة تعبيراتهم وتصرفاتهم وأفكارهم وأساليبهم قد تصيبك بالدهشة أو بعدم الاقتناع.ولا شك في أن مثل هذا الأثر سيحدث في نفسك بالتأكيد لولا أنك ترى أمام ناظريك حيثما ذهبت في العالم وجودا قويا للمنجزات التي حققوها والتي فرضت نفسها في كل مكان.عندئذ لن تبتسم.بل ستبحث عن العلاقة بين البساطة الفكرية لهؤلاء الرجال ونجاحهم...ولا بد أن يكون في ذلك المؤشر على الذكاء الخارق.وعلى القوة العظيمة للشعب الياباني الذي يحب بلده.
* إعلامي ومخرج سينمائي وتلفزيوني