للأبواق التي تجتر أكذوبة: جمعية العلماء تخلفت عن ركب الثورة في بدايتها

الجمعة, 13 مايو 2022

للأبواق التي تجتر أكذوبة: جمعية العلماء تخلفت عن ركب الثورة في بدايتها

جِهاد بعض رجال الجمعية أنموذجاً..
جنيف / سويسرا: محمد مصطفى حابس

عاشت الجزائر في مرحلة الاستعمار الفرنسي (1830- 1962م) أخطر أوضاعها الأمنية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية فكانت بحاجة إلى هيئة شعبية جامعة تكافح للدفاع عن هويتها الحضارية العربية والإسلامية ضد المستعمِر الفرنسي. فأتى تأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر بعد قرن من الاستكبار الفرنسي وتحديدا يوم 5 ماي 1931 متخذة شعار الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا شبيه بالجدار الفولاذي الحامي المحفز لحمل أعباء التجربة النضالية فقد بذل الآباء الأوائل جهودهم وطاقاتهم للحفاظ على هوية الأمة وعقديتها والدفاع عن الشخصية الجزائرية في وجه خطط الاستعمار التغريبية والتصدي للخرافات والبدع التي شوهت الإسلام وثقافة المجتمع العريقة وقيمه الحضارية.
كما شكل بعدها الحدث التاريخي الهام 8 ماي 1945 حدثا مفصليا في تاريخ النضال الوطني لأجل استعادة الوطن وتصفية الاستعمار ولعله من أهم أسباب التعجيل باندلاع الثورة وتأسيس الجبهة وتجاوز اشكالات الاطر التنظيمية الحزبية وتحقيق الوحدة لأجل تحقيق الهدف الام.. 
فمجازر 8 ماي45 احدثت شرخا كبيرا بين الإدارة الاستعمارية واهدافها التسلطية وبين المواطنين ورسخت فكرة التمايز الحضاري الذي سعت مختلف التشكيلات السياسية وعلى راسها جمعية العلماء إلى ترسيخه وغرسه في الذاكرة الجماعية للامة الجزائرية التي تعرضت لعمليات غسيل كبرى لأدمغة ابنائها.
فعلى الرغم من بشاعة المجازر المتأتية أساسا من بشاعة الاستعمار وتاريخه الدموي إلا أنها حملت في طياتها بوادر العمل الجماعي المنظم لإنهاء الظاهرة الاستعمارية المقيتة في البلد واستعادة الدولة والوطن من مخالب المستعمر الغاصب. 
ومن هنا فإنه لا يمكن اعتبار احداث 8 ماي خطأ استراتيجيا وقعت فيه الحركة الوطنية - كما يحاول البعض تصويره - بل أنه ضرورة نضالية اقتضتها المرحلة رغم مرارة نتائجه الجسيمةورحم الله شهداء الوطن واسكنهم فردوس جنانه 


اعتبرته فرنسا قائدًا روحيًا للثورة الجزائرية في بداية الخمسينات 
يعتبر شيخنا العلامة محمود بوزوزو (1918–2007) أول إمام في بسويسرا منذ بداية الستينات أحد الأعلام الجزائرية البارزة في النشاط الإصلاحي الهادف إلى صيانة الهوية الوطنية ومكوناتها الثقافية وفي نشر الفكر السياسي التحرري بلسانه وقلمه بمنأى عن التحزب كما كان أحد القادة البارزين للحركة الكشفية في الجزائر وأول مرشديها منذ أربعينات القرن الماضين رفقة الشهيد محمد بوراس. 
كما يُعتبر أيضا مع المفكّر مالك بن نبي من بين الشخصيات التي كان لها تأثيرٌ في الحركة الوطنية فقد ساهما لعدة عقود في إيقاظ وتوعية الجزائريين القابعين تحت وطأة الاحتلال الفرنسي. 
فالشيخ محمود بوزوزو من رجال جمعية العلماء وهو ذلك التلميذ الشاب القبائلي القادم من بجاية الذي قال له معلمه الإمام عبد الحميد بن باديس في قسنطينة: (أتمم دراستك وبعد ذلك كن مسلمًا) كما قال له الشيخ العربي التبسي ذات يوم: إن مثلك مكانه عندنا فلبّى رغبته ورحّب به رئيس جمعية العلماء الشيخ البشير الإبراهيمي فانخرط في سلك المصححين والمحررين في جريدة البصائر قبل الثورة كما أشرف على فتح عشرات المدارس العربية والقرآنية في العديد من جهات الوطن رغم تحذيرات وبطش المستعمر. 
ونجح الشيخ محمود بوزوزو حينها في بداية خمسينات القرن الماضي أيضا في لمّ شمل علماء الإصلاح ومناضلي الحركة الوطنية تحضيرا للجهاد للكتابة في جريدته المنار لبثّ الفكر النهضوي الإصلاحي ولنشر الفكر السياسي التحرري. ولعل أهم قضية استقطبت أقلام هؤلاء قضية الاستفتاء حول ضرورة اتحاد الجزائريين بمختلف أطيافهم السياسية وتجاوز الخلافات مادام أمر توحيد الجهود ضرورة ملحة لتحقيق آمال الجزائريين في التحرر من نير الاستعمار. 
كان حينها الشيخ مدرّسًا ومديرًا في أوائل الخمسينيات لمجلة المنار ورئيسًا ومرشدًا عامًا للكشافة الإسلامية الجزائرية (1947-1954). اضطُهد العلامة محمود بوزوزو من قِبل الشرطة الفرنسية التي اعتبرته قائدًا روحيًا للثورة الجزائرية لأن معظم الذين فجروا الثورة تدرّبوا في إطار الكشافة الإسلامية الجزائرية وبالتالي حكمت عليه فرنسا بالإعدام لكن الله حفظه وخلصه من أنياب المستعمر ليفر للخارج مجاهدا بقلمه ولسانه.. 

تاريخ 8 ماي 1945 في مذكرات الامام محمود بوزوزو 
تحت عنوان 8 ماي كتب العلامة بوزوزو في جريدة المنار السنة الثانية العدد الثالث بتاريخ الجمعة 13 شعبان 1371 9 ماي 1952. في مثل هذا اليوم يفرح صاحب الغنم ويترح صاحب الغرم وبين الرجاء المحقق والأمل الخائب مجال للعظة ونعم الواعظ الدهر.. 
في 8 ماي 1945 خمدت حرب طلق نيرانها على العالم غرب محموم لا تهدأ حماه إلا بالسباحة في بحر الدماء.. مبينا بقوله كأن هذا الغرب ما خلق إلا ليذكر البشرية التائهة في الأحلام السلمية والظنون الحسنة بأن لا مقر فوق الأرض للأخوة البشرية ولا ملجأ فيها للحرمة الإنسانية ولا قرار فيها لحسن الجوار ولا شريعة بها إلا الحديد والنار .. ذلك دين الغرب وفلسفة الغرب وحضارة الغرب وحمى الغرب ومن أكبر المصائب على البشرية أن تمده الأقدار بالمعاول لهدم شريعة السماء شريعة الرفق بالإنسان. تلك الشريعة التي أصبحت ضحيته العظمى يئدها كما تأكل الهرة بنيها حنانًا وإشفاقًا. . 
في سبتمبر 1939 جن جنون الغرب بعدما هدأ عشرين سنة إثر خروجه من بحر الدماء الذي غمر به الأرض وعاودته الحمى طالبة بحرًا جديدًا فلم يسعه إلا أن يستجيب لها ويعالجها بدوائها ولكل داء دواء. فقدمت القرابين لإسكان غضب الآلهة وغمر الأرض بحر من الدماء واستراح الكون من أكبر جراثيم الحمى: هتلر وموسوليني وهدأت الحمى وظن الناس أن الشفاء قد تم وأن الهدوء قد عم. 
ولكن ما كادت تلك الجراثيم تزول حتى ظهرت جراثيم أخرى. وها هو الغرب يتوعك بحمى متجددة تطلب بحرًا من الدماء وها هو الكون لا تغيب عنه الشمس إلا وهو يتوقع أن تستحيل حمرة الشفق بحرًا يغمر الأرض من أقصاها إلى أقصاها . 
مذكرا بقوله: لو كانت الفتنة لا تصيب إلا الظالمين ولو كانت النار لا تحرق إلا الموقدين لاستراح العالم من الظلم والحرائق. ولو كان الإنصاف في المغانم والمغارم لاستراح العالم من القلاقل والزلازل. ولكن الفتنة تتعدى صاحبها والنار تتجاوز موقدها وليس للضعفاء حق في المغانم وإن كان لهم سهم في المغارم. تلك حقيقة يعرفها الشعب الجزائري معرفة مجممة وقد لمسها لمسًا يوم 8 ماي 1945 .. شارحا ما ذهب اليه طيش الغرب بقوله: أقدم الغرب على الفتنة يوقظها وعلى النار يوقدها منشدًا أناشيد الحرية والتحرير ليسوق عشاق الحرية معه. فانطلق الجزائريون باذلين النفس والنفيس في سبيل العهد المنشود عهد التحرير. فكان النصر حليف الحلفاء الذين انساق معهم الجنود الجزائريون. وجاء وقت اقتسام المغنم بعد دفع المغرم فادحًا. فما كان حظ الجزائريين؟ أطلق عليهم الاستعمار الفرنسي نيرانًا أبادت ما يجاوز أربعين ألف مسلم فكان يوم 8 ماي 1945 للجزائريين يوم أتراح يندبون فيه سوء حظهم يتوالى المدى وجرحه باق ولكنه إلى جانب ذلك يوم درس وعبرة. ونعم الدرس ما جاء من الجراح والآلام .. مستدركا بقوله: إن الغرب اليوم قد عاودته الحمى المشؤومة وسيجد لها أناشيد حول ما يصبو إليه الجزائريون من آمال سامية فهل يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟ فإن اتقاء اللدغ يقتضي من الجزائريين جمع الكلمة وتوحيد الموقف لتحقيق مطامحهم قبل كل شيء عملًا بقول القائل عصفور في اليد خير من عشرة في الغد بل على الشعوب المغاربية كلها أن توحد موقفها لكي لا تذهب مطامحها للأهواء الاستعمارية المشؤومة. .. فإن الاستعمار يضربها بدون تمييز فعليها أن تقاومه بدون تمييز. وإنه يجعل من فرص تحررها فرصًا لتشديد خناقه عليها أليس في إمكانها قلب الوضعية لنجاتها؟ .

(يُتبع ان شاء الله)