فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الثامن عشر بعد المائة-

الجمعة, 27 مايو 2022

في مدينة الأبيض سيدي الشيخ
فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ
-الجزء الثامن عشر بعد المائة-

بقلم: الطيب بن ابراهيم
*لويس ماسينيون الجاسوس
في الحلقات الماضية تحدثت عن لويس ماسينيون الذي كان يتحرك على الدوام من أقصى العواصم العالمية إلى أقصى القرى النائية ومن أرقى الجامعات العلمية إلى أفقر الإرساليات التنصيرية وركَّزت على علاقته الحميمية بإرسالية إخوة يسوع الصغار التنصيرية التابعة لتلامذة شارل دي فوكو بمدينة الأبيض سيدي الشيخ الجزائرية وهو ما لم يكن يعرفه عنه أحد في حياته  باستثناء قلة قليلة من المقربين منه وتطرقت في هذه السلسلة لبعض الحقائق التي تنشر لأول مرة عامة وحول ماسينيون خاصة عن علاقته مع إرسالية إخوة يسوع الصغار بمدينة الأبيض سيدي الشيخ . وفي هذه الحلقة نتوقف عند التساؤل حول علاقة ماسينيون بالتخابر مع الدوائر الاستعمارية والكنسية خاصة أن رسائله وتقاريره مع هذه الأخيرة كانت تعد بالمئات وعلى أعلى المستويات. والتخابر تهمة أخرى لاحقت ماسينيون في حياته وبعد وفاته وحتى من أقرب مقربيه!  فما حقيقة ما قيل عنه في هذا الموضوع؟.
ومع ذلك فماسينيون الحذر والمحتاط لم يكن من النوع السهل المنال فالعالِم الكبير كان حاد الذكاء شديد الحرص على سمعته ولم يترك أثرا يدينه بسهولة ويحسب لكل أمر حسابه إلى درجة أن قال عنه احد نقَّاده وهو إدوارد سعيد : ومن الحمق ألا يحترم المرء العبقرية المحض والجدة الطرية لعقل ماسينيون . 
يُعدُّ اتهام لويس ماسينيون بالتجسس اتهام قديم مصاحب له منذ شبابه وأول مرة وجهت له فيها هذه  التهمة كانت سنة 1908 أثناء تكليفه بمهمة تنقيبية عن الآثار في العراق حيث اعتقل هناك في شهر ماي سنة 1908  من طرف الجنود العثمانيين الذين اتهموه بالتجسُّس والتآمر على الأمن العام وهمّ العثمانيون بإعدامه لولا تدّخل العلاّمة محمود شكري الألوسي والقاضي علي نعمان الألوسي للتوسط لصالح ماسينيون.  
وأثناء الحرب العالمية الأولى  تجند ماسينيون بالجيش الفرنسي بجبهة الدردنيل يوم 16 مارس سنة 1915 كمترجم للقوات الجوية بعد ذلك التحق بالقيادة العامة كخبير في شؤون الشرق الإسلامي قبل أن يُوَجّه إلى فرقة الاستعلامات التي تتحرك ضمن الصفوف الخلفية للجيش الفرنسي وكان ضابطا برتبة ملازم أول قبل أن يتم  اختياره مستشارا لممثل فرنسا في اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916.
ودائما أثناء الحرب العالمية الأولى تم أول لقاء بين الجاسوس البريطاني لورنس العرب توماس إدوارد لورنس 1888 - 1935 ولويس ماسينيون كان ذلك يوم 8 أوت سنة 1917 واستقبَلا معا بلباسهما العسكري الجنرال البريطاني إدموند ألنبي أثناء دخوله لمدينة القدس محتلا يوم 11 ديسمبر سنة 1917 ( أي بعد شهر من صدور وعد بالفور ) ولقد شبّه بعض الفرنسيين مواطنهم ماسينيون  ب لورنس العرب وأطلقوا عليه لورنس الفرنسي فهل وجه الشبه لكونهما معرّبيْن أم لكونهمها جاسوسين؟!. 
ومع بداية الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر سنة 1939 كان لويس ماسينيون من بين أوائل الملتحقين بالجيش الفرنسي كقائد كتيبة في قيادة الأركان وكقائد لمجوعة الشرق الأوسط في وزارة الإعلام وفي سنة 1945 - 1946 أرسل للشرق الأوسط وكان قد تجاوز الستين من العمر.
ومن جهة أخرى هناك اتهامات وإشارات لنشاط ماسينيون المخابراتي وردت من قبل بعض المثقفين والمفكرين الكبار فمثلا المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد 1935 ـ 2003 يرى أن المستشرقين الانجليز أمثال لورنس الجاسوس وسايكس الذين تميزوا  بالذكاء والمناورة   كانوا يتفوقون على نظرائهم الفرنسيين باستثناء لويس ماسينيون لكن الاتهام الأقوى كان من مواطنه وشريكه في حقل الاستشراق ماكسيم رودنسون. 
*ماكسيم رودنسون 1915 - 2004
ماكسيم رودنسون  هو مواطن لويس ماسينيون وشريكه في الميدان وهو أحد أعلام الاستشراق الفرنسي وكان أكثر جرأة وصراحة وإن حاول تبرير موقف ماسينيون فهو يعرف مُواطِنَه وشريكه في النهج كما يعرف نفسه وعندما يتحدث عن ماسينيون لا يستطيع أن ينكر الوقائع المنسوبة إليه ولكن يحاول إيجاد المبررات فيقول : مثلا ماسينيون وأنا لا أحبذ عادة كل ما يقوله كان يُطلب منه أن يكتب تقارير إلى وزارة الخارجية وأعرف من بعض الذين يعملون في وزارة الخارجية كما يقولون لي بأن بعض كتاباته كانت حمقاء إلى حد ما هل كان ماسينيون جاسوسا أو عميلا؟ كان وطنيا فرنسيا وكان واجبه أن يخبر حكومته ولا أعرف كيف ينتقد الوطنيون المتطرفون نقاد الاستشراق وطنيا فرنسيا يخدم وطنه .
المستشرق رودنسون يقول كلاما مهما وخطيرا في آن واحد أولا هو لا يوافق ماسينيون في كل ما يقوله وثانيا أن ماسينيون كان يكتب تقارير حمقاء إلى حد ما رودنسون نفسه غير راض عنها ويصفها بالحمقاء ويتساءل هل كان ماسينيون جاسوسا أو عميلا؟ لكنه يقول عن تقارير ماسينيون التجسسية أنه عمل وطني وأن ماسينيون يجب أن لا ينتقد لأنه كان يخدم وطنه. 
والحقيقة أنه لا أحد شكك في وطنية أي جاسوس تجند لخدمة وطنه منذ فجر التاريخ باستثناء العملاء الذين تجندوا لخدمة العدو على حساب أوطانهم فما بالك بتجند شخصية من العيار الثقيل مثل ماسينيون لخدمة وطنه فهو وطني حتى النخاع كما لا أحد شكك في وطنية أي جند من جنود الاحتلال مهما ارتفع عدد ضحاياه في الجزائر وهذا ما يحاول رودنسون أن يتلاعب به على منتقدي ماسينيون العالِم ومنتقدي تجسسه وخلاصة القول أن رودنسون يعترف بتجسس ماسينيون لكنه يبرر جاسوسيته بالوطنية!!.
وبالمناسبة أذكر هنا مقارنة لرئيس إرسالية الأبيض القس روني فوايوم وهو مقرب جدا من ماسينون يقارن فيها بين هذا الأخير وشيخهما شارل دي فوكو حيث يعترف أن كلا منهما كُلِّف بمهمة ( ؟ !) الأول في العراق في بعثة أثرية والثاني في المغرب لوضع خريطة لمنطقة الأطلس الصحراوي وكلاهما اتهم بالتجسس وكلاهما تم التدخل لمساعدته من قبل السكان شارل دي فوكو ساعده بالمغرب اثنان هما: الحاج بو رحيم وبالقاسم الحموزي ولويس ماسينيون ساعده اثنان هما محمود شكري الألوسي والقاضي علي نعمان الألوسي !.


...يُتبع...