هل هي حقا عربية فصحى تدرّجت؟

الثلاثاء, 24 أغسطس 2021

العاميات الجزائرية
هل هي حقا عربية فصحى تدرّجت؟

مساهمة: الدكتور جمال بلعربي
يعتقد بعض الباحثين في مجال اللسانيات العربية أن ما يسمونه بالعاميات الجزائرية هي لهجات تدرجت من العربية الفصحى. لكن هذا الكلام غير علمي. لأن اللسانيات المعاصرة ترى أن اللغات الطبيعية استعمالات شفهية بالأساس يتم تحويلها إلى لغات معيارية في إطار التطور الاجتماعي فتتخذ صفة الفصحى واللغة الوطنية ولغة الأدب وغيرها من الأوصاف حسب زوايا النظر وحسب الوظائف الجديدة التي تكتسبها كل لغة. وبالنسبة للغة العربية يعتقدون أنها جاءت محمولة جاهزة في حقائب فاتحي المغرب العربي ولما عجز السكان الأصليون عن إتقانها وكثر لحنهم فيها اتخذت شكل عاميات. أعتقد أن هذا الفهم كاريكاتوري وهو أشبه بالحكايات الشعبية منه بالوصف العلمي للظاهرة.
تشكل هذا التصور بتأثير نظريات المستشرقين الذين أطلقوا على عاميات المغرب العربي وغيره من عاميات الأقطار العربية اسم العاميات العربية أو الدارجات العربية. فهم يقولون العربية الجزائرية و العربية التونسية و العربية المصرية .. إلخ. ونجد هذا عند أب اللسانيين الجزائريين بصورة مباشرة أو غير مباشرة جان كانتينو. ويؤسس المستشرقون طرحهم على اعتبار أن السكان الأصليين للجزائر كانوا يتكلمون البربرية (التي أطلقوا عليها في العشريات الأخيرة اسم الأمازيغية ) ثم جاء الفاتحون يحملون معهم اللغة العربية المشرقية لغة الإسلام ونشروا هذه اللغة مع نشر الإسلام. فتعرب بعض الجزائريين وذابوا في الهجرات العربية نحو الجزائر وبقي بعضهم محافظا على اللغة البربرية.
للأسف يقدم هذا الوصف الكولونيالي صورة غير صحيحة عن الوقائع التاريخية ويتأسس على تصور متناقض مع المعارف اللسانية المتراكمة منذ نهاية القرن التاسع عشر. فالمستشرق الفرنسي ج. كانتينو يعرف جيدا أن اللغة الفرنسية مثلا لم تتأسس في المختبرات لتنزل بعد ذلك إلى الناس يتعلمونها في المدارس. بل هي لغة الناس في منطقة باريس وضواحيها تمت كتابة قواعدها ثم قرر الملك فرانسوا الأول في 1539 أن تكون هي لغة القضاء وبعد ذلك فرضت بحد السيف كلغة رسمية لكامل المقاطعات والمناطق الفرنسية التابعة للعرش. تشكلت من الكلام الشفهي المستعمل في مدينة باريس وضواحيها وهو متكون من بعض اللاتينية وبعض الرومانية الغالية.. إلخ.
أما بالنسبة للجزائر فتشهد كتب التاريخ والنقائش الأثرية التي عثر عليها في العديد من المدن الساحلية والداخلية وكذا القطع النقدية للعهد النوميدي على استعمال سكان الجزائر إلى غاية الفتوحات الإسلامية لغة يسميها الرومان فينيقية شمال إفريقيا. يطلقون عليها البونية لتمييزها عن الفينيقية المستعملة في لبنان وفلسطين ويسمونها كذلك القرطاجية نسبة إلى قرطاج العاصمة الأولي للفينيقيين – حسب التسمية الرومانية - في شمال إفريقيا خلال ما يقارب الألف سنة قبل الميلاد. أما المتكلمون بها فيسمون أنفسهم كنعانيين ويسمون لغتهم بالكنعانية. هذا ما قاله سكان عنابة للقديس أوغسطين عندما سألهم من هم وماذا يتكلمون. وهو ما يشهد به أبوليوس المادوري أيضا والذي كان يتكلمها.
الكنعانية واحدة من اللغات السامية مثل العربية والعبرية والتشادية والأمهرية في أثيوبيا الحالية والقبطية في مصر والليبية التي سماها الرومان بعد ذلك بربرية والعديد مما نسميه باللهجات في المشرق. تتميز تلك اللغات واللهجات بوجود نسبة كبيرة ومتفاوتة الأهمية من التشابه بينها. وهنا يجب أن نشير إلى أن التشابه الكبير بين اللهجات المسماة أمازيغية في شمال إفريقيا وبين العامية المغاربية لا يرجع إلى احتكاكها بالعربية الفصحى بعد الفتوحات بل إلى كونها من نفس العائلة مثلها مثل الكنعانية وتحمل نفس النسبة من الرواسب. فهي متفرعة من لغة افتراضية واحدة يسميها علماء اللغة بالسامية. مثلما هو الحال مع ما يسمونه باللغة الهندية الأوروبية التي يفترضون أن العديد من اللغات الأوروبية الحالية تفرعت عنها. وهناك من الباحثين من يعتبر السجل الفصيح للغة العربية في شكلها القديم هو نفسه ما يسمى بالسامية. وهذا ما يتفق مع قدرتها على تفسير الكثير من العبارات الغامضة بتلك اللغات.
تتشابه اللغات السامية في النظام الصرفي للأفعال والأسماء (المورفولوجيا) والضمائر والاشتقاق والأوزان الصرفية – التي يعتبرها الدارسون الأوروبيون خاصية عبرية - وتشترك في المعجم وفي نسبة كبيرة من أصول الكلمات يحددها اللساني الجزائري عبده الإمام بنسبة 50 من التشابه بين العامية المستعملة في المغرب العربي (المغاربية) والكنعانية. بمعنى أن نصف كلام سكان المغرب العربي في حياتهم اليومية كنعاني يحافظون عليه منذ ألف سنة قبل الميلاد. وكان هذا الاستعمال دائما في احتكاك مع ما يسميه علماء اللغة بالليبية (وسميت بعد ذلك بربرية مثل الكنعانية ثم أمازيغية في منتصف القرن الماضي). ثم تم تطعيمه بالاستعمال العربي الفصيح بعد الفتوحات. ومما أضيف إليه بعض من الاستعمال التركي خلال الوجود العثماني مع بعض الإضافات الإسبانية في المدن التي احتلها الإسبان والتي شهدت هجرات إسبانية هامة خلال الاستعمار الفرنسي. بهذه الطريقة تزداد اللغات ثراء وحيوية واستيعابا لحضارات زمانها وإصرارا على البقاء.
غير أنه بسبب التصورات الخاطئة التي روج لها المستشرقون وورثها عنهم تلامذتهم المباشرون وغير المباشرين يميل الدارسون إلى اعتبار الاستعمال اللغوي العامي في الجزائر استعمالا عربيا لا يحترم قواعد اللغة. أي أنه استعمال كثير الأخطاء. وهذا من الزاوية العلمية اللسانية تصور مضحك. فلا يمكن لأي كلام أن يحقق وظيفة التواصل إذا لم يحترم قواعده النحوية. وكل ما في الأمر أن القواعد النحوية التي يعتمد عليها الجزائريون في استعمالهم اللغوي العامي مختلفة بنسبة قد تصل إلى 50 عن العربية الفصحى. وبسبب تلك النسبة من التشابه يصادر الباحثون على كون الاستعمال العامي متدرج عن العربية الفصحى. والخطير في المسألة ليس هذا الوصف في حد ذاته بل تأثيره على مفاهيم وتصورات الباحثين وعلى بلورتهم لإشكالياتهم. فعندما نعتبر العامية الجزائرية متدرجة عن العربية الفصحى سوف نقحم بنياتها إقحاما في البنيات العربية الفصيحة ونتوصل إلى نتائج غير متماسكة علميا. لقد حدث مثل هذا في اللسانيات الأوروبية عندما كانوا يعتبرون قواعد أشرف اللغات يجب أن تكون مشابهة للغة اللاتينية التي لها صفاء المنطق وبركات الكنيسة. حدث هذا في نحو بور روايال في 1660. غير أننا حين ننتبه إلى أن العامية المغاربية ذات بنية تطورت مع العربية الفصحى من نفس الأصل السامي سوف نصف التشابهات بينهما في التراكيب والمعجم والبنى الصوتية وصفا علميا أكثر دقة. ونتمكن من وصف ما هو موجود من روابط صوتية ومعجمية ودلالية وتركيبية وربما حتى تداولية بينها.
إن واحدة من العقبات الذهنية المعطلة لهذه الأطروحة ترجع إلى كون الدارسين الأوائل للكنعانية في القرن 19 قد اعتبروها أقرب إلى العبرية القديمة. وكثيرا ما اعتمدوا في ترجمتها على الكتابة العبرية بالخط المستعمل في أقدم نسخ الكتاب المقدس. وانتقل هذا التقريب المتعسف في نظرنا من استعمال الخط إلى استعمال المعجم أيضا. فأغلب الدارسين المعاصرين للكنعانية باستثناء بعض الدارسين الألمان يسمونها فينيقية بونية حسب تسمية الرومان والبيزنطيين ويرجعون في فك نصوصها إلى المعجم العبري. لكننا نعتقد أنهم لو رجعوا إلى المعجم العامي المغاربي سيصححون الكثير من معلوماتهم ويحلون الكثير من الألغاز المستعصية إلى حد الآن. يكفي فقط أن يعلموا أن تلك اللغة مستعملة إلى الآن في شكل قد عرف تطورا هاما عبر القرون لكنها مع ذلك تساعد في قراءة وفهم النصوص التي تحملها النقائش والنقود.
لنأخذ مثالا عشوائيا على ذلك من كتاب قواعد نحو الفينيقية والبونية لستانسلاف سيغرت 1976 ص 181. عبارة مكتوبة على نقيشة ينقلها الكاتب عن مراجعه بالخط العبري تنطق هكذا: كل زبح أش أدم لزبح لكن هذا النطق هو نطق العبرية الحديثة وليس بالضرورة النطق الأصلي للنص. وعندما نقربه من النطق المغاربي يصبح كل ذبح أش آدم لذبح لأن العبرية لا تنطق الذال بل تعوضه بالزاي. وعندما نعرف أن الكنعانية مثل العربية والعبرية وبقية الساميات لا تكتب المصوتات القصيرة وأن على القارئ أن يضيفها من مكتسباته اللغوية السابقة يمكن أن نتصرف في قراءة النص ونجعلها كل ذبيحة أش أدمي ليذبح . لاحظ أننا نحاول استنطاق حجر بطريقة متحررة من القراءة المتأثرة باللغة العبرية وهو ما يترجمه الباحث الالماني سيغرت بالإنجليزية هكذا:
any offering which any one has to offer
ونقربها إلى المغاربية فتصبح: كل ذبيحة آش ليذبح الآدمي . ليتضح معناها بالعربية كل ذبيحة يذبحها الآدمي . إن مثل هذه العبارات التي تنطق إلى اليوم بنفس الطريقة في بعض المدن الجزائرية كانت تنطق في بلاد المغرب العربي بتلك الطريقة نفسها قبل أكثر من 1500 سنة من الفتوحات الإسلامية. واستمر استعمال هذه اللغة موثقا في كتب التاريخ إلى ما بعد الفتوحات ليواصل تطوره لكن هذه المرة متأثرا بوجود العربية الفصحى مرافقة للشعائر الإسلامية. ثم بمرافقة وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة. ولذلك على الباحث المختص أمام كلمات مثل زريعة (نسل ذرية) مصبت (نُصب) بت (بنت) رب (حاكم).. إلخ في العامية المغاربية ألا يتردد في يعتبرها من الموروث الكنعاني حسب الاستعمال العامي. وأن يعتبر تشابهها مع الكلمات العربية راجعا إلى الأصل السامي المشترك مع إمكانية تطور الدلالات عبر الزمن والجغرافيا.